آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

تهذيب التفكير ولعنة الماضي

عباس المعيوف * صحيفة الشرق

تكمن أهمية التفكير في الرؤية الجادة والحيادية نحو الحقيقة المنوط حولها، التي تختلف بمفهومها ودلالاتها من إنسان إلى إنسان آخر، فكل واحد منا يرى أنه ملك الحقيقة المطلقة في تعريفها حسب عقيدته ومذهبه الفكري، يأتي هذا المفهوم بطبيعة الحال من خلال الموروث الديني الذي بنى هذا الفكر وانطلق منه هذا التفكير يراه بعضهم عقيما بمعنى الكلمة، فمتى ما نحصر مفهوم التفكير داخل المذهب وداخل المؤسسة كان لزاماً أن يكون هناك قصور في الرؤية والتفكير، تتداخل عناصر مهمة في تكوين التفكير بمعنى التفكير، فالفلسفة والدين والفكر والمجتمع والاقتصاد والسياسة أدوات مهمة في ثقافة المعنى. لقد غيب كثير من المسلمين أهمية التفكير في مصلحة الأمة والانشغال نحو احتكار الحقيقة والانشغال نحو رفض الآخر لحمله رؤية مغايرة في المضامين والأهداف.

التفكير لمجرد التفكير لا يخرج الإنسان من دائرة الثقافة المعدومة، بمعنى الإدراك الواعي لمصادر الخطأ هو الطريق المعبد نحو عملية تحسين التفكير وفق منهج علمي مدروس. والحقيقة تقول إنه كلما زاد تفكيرنا وضوحاً أصبحنا نعي معنى التميز بين التفكير التنويري والتفكير التقليدي الذي يسود غالب المجتمعات، ربط ماهية التفكير وفق نسق معين وضعه رجال في مكان معين في زمن معين هو رضوخ للصنمية وانعدام لمفهوم التفكير خارج الصندوق، التفكير السليم ليس سهلاً إذ إنه من الصعب أن تفكر بطريقة منطقية، أي ترتيبات النتائج على المقدمات ووضع الأمور في نصابها هي من نتائج التفكير الرزين، ولهذا القرآن الكريم يصف أولئك الذين يفكرون بطريقة رائعة ومنطقية بأولي العقول والنهى وهو تعبير قرآني جميل ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

تعطيل التفكير هو تعطيل للعقل وقد ذم الله هؤلاء بقوله «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه. وبالتالي من الصعب الحوار مع معطلي العقل والتفكير بمنطقية ومن أهم علامات معوقات التفكير السليم مخالطة ذوي العقول المعطلة الذين يشعرون بالخوف بمجرد التفكير في تغير الصورة النمطية التي تربوا عليها، فهم يرفضون الخوض في النقاشات الحديثة والادعاء على من يخوض فيها بالمنحرفين والحداثيين. ضعف استخدام العقل في التأمل والتفكير نتاج طبيعي لهذه الحالة النفسية، كذلك الجدل والتشدق الذي لا معنى له وكأن الحقيقة الدينية ملك له، الاتكال على الآخرين في حل مشكلاتهم وكأنهم يقولون أنتم فكروا عني، وهنا أتذكر مقولة توماس برنهارد يقول «يجب أن نسمح لأنفسنا بالتفكير، يجب أن نجرؤ على أن نفكر، رغم أننا نفشل». إنها طبيعة الأشياء أن نفشل دائما، لأننا نكتشف فجأة أن من المستحيل أن نرتب أفكارنا، لأن عملية التفكير تتطلب منا أن نأخذ بالاعتبار كل فكرة موجودة، كل فكرة ممكنة. بشكل أساسي، نفشل دائما، مثل الآخرين، أياًّ كانوا، حتى أصحاب العقول العظيمة، في نقطة ما، يفشلون فجأة وينهار نظامهم، كما تثبت بذلك كتاباتهم التي نحترمها لأنها تتجاسر أبعد في الفشل. أن تفكر، هو أن تفشل. تفكيرنا بالأمور الهامشية إحدى قضايا المجتمع ومعوقاته، نسخر أوقاتنا وأموالنا وحتى الجزء البسيط من تفكيرنا في قراءة الماضي كل يوم بصورة تدعو للشفقة علينا. نسينا همومنا وقضايانا في بناء مجتمع قوي قادر على مواجهة كل ما يحوم حوله من أدوات من شأنها تمزيقه. من يسخر عقله في تصنيف الناس بهذا مؤمن وهذا ضال وهذا منحرف وهذا مؤمن ولا هدف له إلا إدخال ذاك الجنة والزج بذاك في النار هو واقع يفكر في هامش الحياة بل هو ميت بمعنى الكلمة. لا ينمو العقل إلا من خلال الإدامة التفكير، ومطالعة كتب المفكرين واليقظة لتجارب الآخرين والاتعاظ من أخطاء الآخرين.

التفكير في الماضي نجعله وقودا للحاضر، نستمد منه الدروس والعبر والتجارب والقراءة الدقيقة لبناء فكر يبني لا يهدم يعطي لا يخذل يسامح لا ينفر، لا نريد درساً من الماضي يكرهنا في الآخر يسلب حقه وثقافته وفكره ونؤطر لعنة الماضي والحاضر في شخصه، لا نريد تفكيرا إقصائياً يحصر الحق والباطل في شخوص ويفرض علينا نسقاً خشناً قاسيا منفراً من ثقافة تاريخية ولدت تحت ظروف لا نعلم كيف هي وكيف أتت. إن لحظة التغير تبدأ منك أنت باحترامك لثقافتك والاستعانة برجال يعرفون معنى الحياة ومعنى الآخر. تحرر من قيودك التي زرعتها الأيام الخوالي التي تصطدم مع العقل والنصوص القرآنية وسخر عقلك نحو بناء نفسك أنت لا أن تجعل عقلك وديعة عند لصوص التفكير والبغض للآخر.