آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

«تصفير المشكلات» ليس مستحيلاً!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

حين كان مثقفاً وأكاديمياً وناشطاً في حزب ديني، ألّف أحمد داود أوغلو، كتابه «العمق الاستراتيجي... موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية»، في هذا الكتاب الذي قرأ العرب نسخته المترجمة بعد عشر سنوات من تأليفه، أي بعد أن أصبح مؤلفه نجماً سياسياً، ينظّر داود أوغلو لإمكانية قيام نظام سياسي لديه مطامح إقليمية ودولية، ولكنه قادر على إنجازها من دون مشكلات!.

أطلق على تلك النظرية مصطلح «تصفير المشكلات»، وملخصها إمكانية بناء علاقات إقليمية تقوم على الاحترام المتبادل، والحوار، والتعاون الاقتصادي، وحلّ الخلافات بالطرق السلمية، واستيعاب التنوع العرقي والديني.

يرى أوغلو «المثقف» أن الانفراجة الدولية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة تمثل فرصة تاريخية لقيام نظام عالمي جديد، يمكن أن تلعب فيه تركيا دوراً دولياً أقوى وتحتل مكانة أكبر. ويتنبه إلى أن قوة بلاده في الخارج تأتي بعد حل معضلاتها في الداخل، وأهمها أزمة الهويات المتصارعة وبناء اقتصاد قوي ومتماسك.

نظرياً تمثل وصفة داود أوغلو حلاً سحرياً لنزع فتيل التوتر في العالم، وتجنب الصراعات الدامية التي أدت لخراب النفوس والعمران وتدمير الحضارات، لكن أين ذهبت تلك النظرية بعد سنوات قليلة من تجربة تطبيقها؟ فهذه تركيا تشتبك وتتصارع في كل الاتجاهات، وهي تتصارع مع الاتحاد الأوروبي، الذي يعد الوصول إليه حلمها التاريخي، وحتى مع دول مثل هولندا والسويد، وفي الداخل لديها صراعات عنيفة أوشكت أن تشتعل فيها قبل شهور حرب أهلية نتيجة انقلاب فاشل.

السلطة التي رأى داود أوغلو أنها ستصفّر المشكلات مع الجيران والعالم، دبّ بسببها النزاع بين أركان البيت الواحد، فاضطر أوغلو نفسه لترك السلطة والحزب الحاكم.

من غير الإنصاف اتهام أحد، وخاصة أحمد داود أوغلو، بأنه كان انتهازياً أو حتى مثالياً. فحسابات المثقف لم تتوافق مع حصاد السياسة. الجيران يتحملون نصيبهم من المسؤولية، لكن كيف يمكنك أن تبعث الأحلام العثمانية من مرقدها وتمنحها هوية إسلامية سياسية، وتظن أن العالم المسكون بالخوف منها سيستبشر بها؟

بعيداً عن النموذج التركي، هل يمكن فعلاً أن تنجح نظرية تصفير المشكلات في محيط تشتعل فيه الأزمات وتتوالد فيه المشكلات؟

ربما بدا الأمر مثالياً، لكنه جدير بالمحاولة، المبادئ الرئيسية التي اعتمدها أحمد داود أوغلو في نظريته يمكن أن تخلق نطاقاً لبناء علاقات تقوم على تشابك المصالح، بدلاً عن المنافسة والصراعات.

دول مجلس التعاون الخليجي نموذج يُعتد به، فعلاقاتها البينية ليست مجرد عواطف ونوايا حسنة، بل مزيج من تبادل المصالح عبّدت الطريق لما يشبه الوحدة بين هذه البلدان. ويمكن لهذه السياسة أن تتوسع أكثر، فما يمكننا أن نكسبه بالسلم لا ينبغي تحصيله بالقوة والصراع.