آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 7:35 م

جدل محمود وآخر منبوذ

ابراهيم الزاكي

هناك جدل محمود يستفز العقل، ويثير الأسئلة، ويحفز على البحث والمراجعة، ويشجع على القراءة، ويولد الرؤى، ويؤدي إلى الابتكار والإبداع، وينتج الأفكار التي تتحول إلى برامج عمل.

وفي الوقت ذاته هناك جدل منبوذ، يستفز النفس، ويلغي العقل، ويجمد التفكير. يتحول فيه الحوار من سجال معرفي وفكري إلى سجال شخصاني، لا يتورع فيه أحد عن إقحام سيرة الطرف الآخر، وانتهاك حرماته، وامتهان كرامته.

في السجال المحمود يتم مناقشة الأفكار، ومحاورتها، ومسائلتها، ومحاولة نقضها بأساليب منطقية لا تزعم اليقين المطلق، والصواب النهائي. وهو الأمر الذي يثري الأفكار، ويُبيِّن قوتها ومتانتها، أو ضُعفها وهشاشتها، وبالتالي مراجعتها ونقدها وإعادة تشكيلها. فمن خلال الجدل المحمود يمكن تبيان متانة أو بؤس الأفكار. فالفكرة القابلة للعيش تبقى وتنمو وتنتعش، أما تلك الخاوية، البعيدة عن العقل والمنطق، فلن يكون لها حظ البقاء، بل تزول وتنتهي.

أما في الجدل المنبوذ فالسيادة فيه للثرثرة ولغو الكلام، والقدرات الصوتية، ومهارات العناد، ومقاطعة المتكلم الآخر، وانتزاع مبادرة الحديث منه، والتعصب للرأي والإصرار عليه، من دون أي إضافة معرفية، أو أفق مفتوح يوصل إلى نتيجة. فكلٌ يدعي امتلاك الحقيقة دون غيره، فأحكامه مطلقة، وآراءه قطعية غير قابلة للنقاش. إذ لا أحد يصغي للآخر ويستمع إلى كلامه، حيث ينحرف الحوار إلى تبادل للشتائم والسّباب، والحط من الكرامات، والإتيان بسفاسف الأمور وصغائرها، مما يتسبب في استفزاز النفوس، وإثارة العداوات والضغائن والأحقاد.

الجدل المحمود ظاهرة صحية وحسنة، وهو سيلة تواصل راقية بين المتحاورين. وهو حوار موضوعي علمي، يبحث فيه المتحاورون عن الحقيقة، بعيداً عن الآراء المعلبة والجاهزة، ويتحقق فيه الإنصات، وتبادل الآراء بين المتحاورين، من غير شخصنة، أو السعي للانتصار على الطرف الآخر، بل يقود إلى الإثراء الفكري، واقتراح الخطوات العملية التي تمهد طريق التغيير والتطوير، وحل المشكلات المستعصية.

غير أن الجدل المنبوذ ظاهرة مرضية، ومشكلة خطيرة، تتطلب التشخيص والعلاج، كي لا يتحول الحوار إلى جدل عقيم لا ينتهي، حيث يتكرر الجدل حول نفس القضايا والموضوعات بشكل موسمي، من دون تقديم أية أفكار جديدة يمكن مناقشتها والاستفادة منها، حيث يتطور هذا الجدل المنبوذ إلى تكريس حالة الانقسام والتصنيف والإقصاء.

حين يطغى الجدل المرضي يغيب الحوار الموضوعي، حيث تستمر المشاكل من دون حلول، وتستمر القضايا معلقة من دون نهاية إيجابية. فإذا كان الاختلاف شيء طبيعي في الحوار، إلا أن المشكلة تكمن حين تخرج العملية الحوارية عن إطارها الصحيح، فيتحول الاختلاف إلى جدل بيزنطي، ومشاكسات لا تستهدف موضوع النقاش، بل تستهدف الانتصار للذات وتحطيم الآخر.

في الجدل المحمود ترتقي لغة الحوار، وتتجلى روح المثاقفة، ومهارات الاتصال الفعال. وهو وسيلة تواصل راقية بين الناس، تقود إلى المعرفة، والحقيقة، واجتراح الحلول. ويؤدي إلى الابتكار والإبداع، وإنتاج الرؤى، والعمل على تغذية الأفكار الجميلة وإثرائها وتنميتها من دون الدخول في سجالات لا طائلة منها، تستفز النفس، وتثير الضغائن والأحقاد.

فيما الجدل المنبوذ يتجلى في التخاصم، ورفع الأصوات، والتنابذ بالكلمات، والتعارك بالأيدي، والتقاذف بالأكواب، حيث لا تنتفي الشروط المنطقية لأي حوار عقلاني فقط، وإنما تنتفي الشروط الأخلاقية أيضاً، وتسقط معها المعايير الأخلاقية في الحوار، حيث لا يُتورع عن انتهاك القيم، والإتيان بالموبقات من أجل تحطيم معنويات الخصم، وكسر إرادته، وفعل أي شيء من أجل إفحامه وهزيمته بأي وسيلة كانت، فالغاية عند البعض تبرر الوسيلة مهما كانت الأضرار والعواقب.