آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

انهيار المثقف!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

«أين ذهب كل المثقفين؟»، سؤال أطلقه الكاتب البريطاني فرانك فوريدي أستاذ علم الاجتماع في جامعة «كينت» وأصبح هذا السؤال عنواناً لكتاب ألفه، يتحسر فيه على غياب المثقف المنتج للثقافة، لصالح وجوه بائسة تتصدر المشهد وتقود النقاش العام، وهي خالية الوفاض من أي مضمون معرفي أو أخلاقي.

في هذا الكتاب يتخوف «فوريدي»، «وبالمناسبة هو صاحب كتاب «ثقافة الخوف»»، يتحسر في الكتاب الأول من أن المثقف الحقيقي أصبح كائناً مهدداً بالانقراض؛ بسبب طوفان مدعي الثقافة الذين تصدروا المشهد دون محتوى أخلاقي، على الرغم من أنه يفترض أن الثقافة عالية الأداء والجودة تتطلب بالضرورة مشتغلين رفيعي المستوى لا أن تتعرض للترهل بسبب اندفاع الأشخاص العاديين لميادينها الفكرية والأكاديمية، يرى أن الساحة خسرت مثقفين بارزين لا يعوضون أمثال: برتراند راسل، أو ريموند ويليامز، وهما وغيرهما - برأيه - مثقفون يمتلكون الرؤية، والاهتمام بالقضايا العامة.

الاهتمام بالقضايا العامة يراه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، صاحب مصطلح «المثقف الملتزم» شرطاً لازماً للمثقف. وهو يعتقد أن المثقف بطبيعته إنسان مهمومٌ بقضايا البشر، وأن مسؤوليته تتعدى حدود مصالحه الشخصية. وهو المفهوم الذي يلاقيه إدوارد سعيد أيضاً الذي يميل إلى أن المثقف لديه رسالة تمثل الفئات الضعيفة والمهمشة.

كان المثقفون يعانون من أنهم مهمشون ولا دور لهم، لكنهم الْيَوْمَ يطلون على ساحة محتدمة بالصراعات والاشتباكات وحتى الفتن. كلهم يشاهد كيف سقطت مجتمعات في العنف والتطرف والفوضى، وكلهم يعلم أن الخراب بدأ بكلمة تحريض ورأي متزمت وفكر يسترخص دماء الناس وأعراضهم، وكلهم شاهد أن الاستسلام لمنطق الاستعلاء والقهر والقوة والاستكانة إلى أنه سبيل لسحق الخصم وتحطيم معنوياته وكسر شوكته وإذلاله، ليس فقط أنه لم يصمد ولَم يتماسك، بل كان سبباً لتعميق الفجوة وتصعيد المشكلة. كيف لمثقف يمتهن الكلمة أن يستخدم لغة يريد من ورائها تحطيم معنويات الناس والاعتداء على كرامتهم والحط من إنسانيتهم وسلبهم حقهم في أوطانهم..؟.

كذلك، كيف لمثقف أن ينحاز أو يصمت على جماعات تمارس العنف وتحمل السلاح ضد الدولة وتعتدي على الأمن والاستقرار وتفتك بمخالفيها في الرأي..؟! لا يوجد مبرر أخلاقي لتغطية أعمال الجماعات المسلحة، أو الانحياز لهم.

ولكن، متى كان الخارج على القانون وصمة عار لأهله ومجتمعه. شاهدنا كيف نجحنا في تحييد الإرهابيين المفجرين للمساجد وأماكن العبادة واستهداف رجال الأمن عن محيطهم الاجتماعي، كيف لبعض المثقفين الْيَوْمَ يسعون لتعميم ثقافة التخوين والترهيب المعنوي؟!.

بين منطق متهور لا يراعي حرمة الأوطان والإنسان، ويعتدي على سلطة الدولة، ويثير التوتر والاضطراب ويختطف مناطق آمنة ومجتمعات مسالمة، وبين منطق أهوج يمارسه مثقفون مسكونون بالانحياز الفئوي القائم على الكراهية والتعصب؛ يقصف عبر المقالات والمداخلات ووسائل التواصل إخوانه في الوطن بأبشع التوصيفات وأقذع العبارات.. ليس حباً في الأمن والاستقرار وإنما صعوداً للموجة واستغلالاً لظرف أسود ولصب الزيت على النار، ولإظهار مشاعر الكراهية تجاه المخالفين.

لابد من مجابهة المتطرفين، ولا بد من بسط سيادة الدولة واحترام هيبتها، ولا بد من لجم كل من يحمل السلاح في وجهها، ولجم كذلك كل من يشعل نار الفتن في الجسم الوطني ونسيجه ووحدته وتماسك أبنائه... لا يختلف من يحمل السلاح ومن يحمل كلمة الشر والفتنة، كلاهما يسعى لخراب الأرض وإذلال الناس وإفساد تعايشهم.. الغريب أننا نشاهد مثقفين محكومين بلغة شعبوية متطرفة يعبرون عن فئويات وعصبيات ضيقة، ثم يجلسون أمام الشاشات ليعطوا دروساً في الواجب الوطني..!، هؤلاء عليهم أن يخجلوا لأن حق الناس في وطنهم وقيادتهم وأرضهم غير قابل للمساومة والابتزاز... المثقف خط الدفاع الأول عن وحدة وسلامة الناس والوطن، لا يجب أن يعين أهل السلاح والتطرف بكلمة الفتنة التي تشعل حرائق لا حد لها.