آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:12 م

«الاستعلاء بالدين»!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

منتصف التسعينات، اقتنيتُ كتاباً عنوانه «المواجهة حول الاعتدال والتطرف في الإسلام»، كان عبارة عن مناظرة فكرية ساخنة بين اليساري المصري رفعت السعيد، والكاتب عادل حسين المتحول من الماركسية إلى الفكر الإسلامي، والكتاب على صغر حجمه، وكونه كتب بقلم طرف في الجدال، إلا أنه بالفعل يقدم عرضاً لطبيعة الفكر المتطرف، والتباسه بالدين، ثم نزوعه نحو القوة والعنف وقهر المخالفين.

في ذلك الكتاب لفتتني إشارة رفعت السعيد إلى مصطلح «الاستعلاء بالإيمان»، قالها وهو يصف المداخلة الأولى لخصمه عادل حسين: «طوال حديثه أحسست بكلماته مغلّفة بحالة من الاستعلاء كتلك التي توهمها «القطبيون»، «تلاميذ سيد قطب»، وسموها «الاستعلاء بالإيمان»».

في كتابه «مَعَالِم في الطَريق» استخدم سيد قطب لفظ «استعلاء الإيمان»، وقال: «إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء، وكل وضع، وكل قيمة، وكل أحد، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان».

يشرح سيد قطب المطلوب قائلاً: «الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان. وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان. وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان».

وهو أيضاً لا يحكم «فقه الضرورة»، ولا يراعي «المصالح المرسلة»، حيث يشدد بالقول: «الاستعلاء.. مع ضعف القوة، وقلة العدد، وفقر المال.. كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء».

خطورة هذه النظرية، لا تقل عن خطورة فكرة أخرى لسيد قطب وهي «المجتمع الجاهلي»، أو فكرة «الحاكمية»، واللتان تقودان بالضرورة لتكفير الدولة والمجتمع.. يقول: «العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهي الحاكمية»..

«الحاكمية»، يشرحها بالقول: «كل البشر الذين يعطون أنفسهم الحق في إصدار قوانين أو تشريعات، أو أي تنظيمات اجتماعية تعد خروجاً من الحاكمية الإلهية إلى الحاكمية البشرية، وأصبح عنده أن البشر محكومون بقوانين غير قوانين الله - سبحانه وتعالى - وبأنظمة لا ترضى عنها شريعة الله، ولم يأذن بها الله، وبالتالي هذا المجتمع مجتمع مشرك وكافر ويعبد غير الله، لأن العبادة هي طاعة الله في حاكميته»..

لم يبتكر سيد قطب هذه النظريات، هو فقط صاغها، لأن التطرف الديني قديمه وحديثه اعتمد دائماً هذه الخلطة الفكرية المتطرفة: «استعلاء وهجرة وتكفير».. وبقايا هذا الفكر ما زال صلداً ومؤثراً، فالخطاب الديني يلهب حماس المؤمنين بالتميز والاستعلاء على الحضارة البشرية، واستخدام الدين لتعويض النقص المعنوي والمادي، وبالتالي فهو خطاب ينزع نحو التطرف، حيث لا يقبل النقد ولا يرضى التعايش، ولا يؤمن بالحوار، وينظر بازدراء للمجتمع الذي يصفه بالجاهلي، ويجحد الدولة والنظام العام، وهو عاجز عن المساهمة في تأسيس دولة القانون أو تكوين المجتمع المدني، أو تعزيز ثقافة التسامح.

«الاستعلاء بالدين» أنتج متحزبين أفرطوا في الاستخدام الخاطئ لسلطة الدين لتقسيم المجتمع وقهر الناس واحتقارهم والتعالي عليهم، بدل التواضع، أمام الحضارات التي ما زلنا ضيوفاً على موائدها، أو الشعوب التي نشاركها همّ هذا الكوكب..