آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:30 ص

التعايش الإيجابي خلق إسلامي منسي

الشيخ حسين المصطفى

من كلمات لمولانا الحسن بن علي قال: ”وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً“.

قال ابن فارس: ”العين والياء والشين أصل صحيح يدل على حياة وبقاء، قال الخليل: العيش الحياة، والمعيشة: الذي يعيش به الإنسان من مطعم ومشرب، وما تكون به الحياة، والعيشة مثل الجلسة والمشية، والعيش المصدر الجامع، وكل شيء يعاش به أو فيه فهو معاش قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا، ورجل عائش إذا كانت حاله حسنة“.

إذا ما عدنا إلى القرآن الكريم فإننا سنجد أنَّ لفظ «العيش» استعمل بهذا المعنى في سبعة مواضع بتصاريف متعددة:

﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ.

﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا.

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا.

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا.

﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ.

والإسلام دين يتجه برسالته إلى البشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم وترسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم.. فالجميع ينحدرون من «نفس واحدة»: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ.

ولهذا لا يمكننا أن نفسر كلام الإمام الحسن بن علي إلا في هذا الإطار الأخلاقي العام، ”وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً“؛ سواء كان جارك قريباً أو بعيداً، مسلماً أو كافراً، فمن علامات الإسلام أن تحسن جوار من جاورك، فإذا أسأت جوار من جاورك كنت بعيداً عن الإسلام؛ لأنَّ الإسلام لا يتمثل فقط في الصلاة والصوم والحج، بل يتمثل - أيضاً - في الأخلاق واحترام الآخرين.

نماذج من صور التعايش الإيجابي:

«علاقة هشام بن الحكم وعبد الله الإباضي»:

لقد كان عبد الله بن يزيد الأباضي يسكن الكوفة، وكان محط أنظار أصحابه من الإباضية، يأخذون منه تعاليم مذهبهم، وكان يعمل في الخرازة، وكان شريكاً لهشام بن الحكم الشيعي، الذي كان مقدَّماً في أوساطهم، يختلف إليه أصحابه من الشيعة يأخذون عنه، وكلاهما في حانوت واحد، إلى أن فرَّقَ الموت بينهما.. «مروج الذهب: ج 2 ص 54».

«علاقة طلحة بن مصرف وزبيد اليامي»:

لقد كان طلحة بن مصرف وزبيد اليامي متآخيين، وكان طلحة عثمانياً وكان زبيد علوياً، وكان طلحة يحرِّم النبيذَ وكان زيد يشرب، ومات طلحة فأوصى إلى زبيد. «معرفة الثقات: ج 1 ص 480».

قال ابن حجر العسقلاني: قال محمد بن طلحة بن مصرف: ”ما كان بالكوفة ابن أب وأخ أشد تحابباً من طلحة بن مصرف وزبيد اليامي؛ كان طلحة عثمانياً وكان زبيد علوياً“ «تهذيب التهذيب: ج 3 ص 268».

«علاقة عبد الله بن إدريس الأودي وعبثر بن القاسم الزبيدي»:

كان عبد الله بن إدريس الأودي وعبثر بن القاسم أبو زبيد الزبيدي متآخيين؛ وكان عبد الله بن إدريس عثمانياً وكان عبثر علوياً، وكان ابن إدريس يحرِّم النبيذ وكان عبثر يشربه، ومات عبثر فقام ابن إدريس يسعى في دَينٍ عليه حتى قضاه. «معرفة الثقات: ج 1 ص 480».

«علاقة عبد الله بن عكيم الجهني وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري»:

كان عبد الله بن عكيم الجهني - وكان جاهلياً أسلم قبل وفاة النبي ﷺ - وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري متآخيين، وكان عبد الله بن عكيم عثمانياً وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى علوياً، وما سُمع يتذاكران شيئاً من ذلك. «معرفة الثقات: ج 1 ص 480».

«علاقة عبد الله بن عباس بالخوارج»:

كانت علاقة الخوارج الحرورية، المنشقّون عن علي ، مع تلميذه عبد الله بن عباس في تواصل تام؛ يقول يزيد بن هرمز: "كتَبَ نَجدَةُ بن عامِرٍ الحَرُورِيُّ إلى بن عبَّاسٍ يَسأَلُهُ عن العَبْدِ وَالمَرْأَةِ يَحضُرَانِ المَغْنَمَ هل يُقسَمُ لهُمَا؟ وعَنْ قَتلِ الوِلْدَانِ؟ وعَنْ اليَتِيمِ متَى يَنقَطِعُ عنه اليُتْمُ؟ وعَنْ ذوِي القُرْبَى من همْ؟

فقال لِيزِيدَ: اكتُبْ إليه، فَلَولَا أنْ يقَعَ في أُحْمُوقةٍ ما كتَبْتُ إليه. اكْتبْ: إِنّكَ كتَبْتَ تسْأَلُنِي عن الْمرْأَةِ والْعَبْدِ يحْضُرَانِ الْمغْنَمَ هل يُقْسمُ لهُمَا شيْءٌ؟ وإِنَّهُ ليس لهُمَا شيْءٌ إلا أنْ يُحْذيَا.

وكَتَبْتَ تسْأَلُنِي عن قتْلِ الْوِلْدانِ؟ وإِنَّ رسُولَ اللهِ لم يقْتُلْهُمْ، وأَنْتَ فلا تقْتُلْهُمْ إلا أنْ تعْلَمَ منهم ما علِمَ صاحِبُ مُوسى من الْغُلامِ الذي قتَلَهُ.

وكَتَبْتَ تسْأَلُنِي عن الْيتِيمِ متَى ينْقَطِعُ عنه اسمُ الْيتْمِ؟ وإِنَّهُ لا ينْقَطِعُ عنه اسمُ الْيتْمِ حتى يبْلُغَ ويُؤْنَسَ منه رشْدٌ.

وكَتَبْتَ تسْأَلُنِي عن ذوِي الْقُرْبى من همْ؟ وإِنَّا زعَمْنَا أنَّا همْ، فأَبَى ذلك علَيْنَا قوْمُنَا". «صحيح مسلم: ج 3 ص 1445 ح 1812».

«علاقة الشريف الرضي بأبي إسحاق الصابي»:

من الصداقات التي ُتذكر في التراث العربي تلك التي قامت بين أبي الحسن الموسوي الشريف الرضي وأبي إسحاق أبراهيم بن هلال الصابي. وقد بنيت هذه الصداقة على روح المحبة والإيثار والسماحة والفضل الذي ناسب بين الصديقين والذي كتب لصداقتهما أن تعيش بعمرهما ويبقى ذكرها مقرونا بإسميهما.

عالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح الفعَّال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضى؛ نظراً لأنّ التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوماً بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب، حتى أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية كبيرة.

وفي الصحيح عن معاوية بن وهب، قال: قُلْتُ لَهُ «للإمام »: كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا، وَبَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرِنَا؟

قال : ”تَنْظُرُونَ إِلَى أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَتَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ؛ فَوَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ، وَيَشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ، وَيُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَيُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ“ «الكافي: ج 2 ص 599».

والإسلام دين يسعى، من خلال مبادئه وتعاليمه، إلى تربية أتباعه على التسامح إزاء كل الأديان والثقافات. فقد جعل الله الناس جميعاً خلفاء في الأرض التي نعيش فوقها، وجعلهم شركاء في المسؤولية عنها، ومسؤولين عن عمارتها مادياً ومعنوياً كما يقول القرآن الكريم: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. أي طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها. ومن أجل ذلك ميّز الله الإنسان بالعقل وسلّحه بالعلم حتى يكون قادراً على أداء مهمته وتحمل مسئولياته في هذه الحياة.

ولهذا يوجِّه القرآن الكريم خطابه إلى العقل الإنساني الذي يُعد أجلّ نعمة أنعم الله بها على الإنسان. ومن هنا فإنَّ على الإنسان أن يستخدم عقله الاستخدام الأمثل؛ وفي الوقت نفسه يطلب القرآن من الإنسان أن يمارس حريته التي منحها الله له، والتي هي شرط ضروري لتحمل المسئولية. فالله سبحانه لا يرضى لعباده الطاعة الآلية التي تجعل الإنسان عاجزاً عن العمل الحر المسئول. فعلى الإنسان إذن أن يحرص على حريته وألا يبددها فيما يعود عليه وعلى الآخرين بالضرر.

ومن شأن الممارسة المسؤولة للحرية أن تجعل المرء على وعي بضرورة إتاحة الفرصة أمام الآخرين لممارسة حريتهم أيضاً؛ لأنَّ لهم نفس الحق الذي يطلبه الإنسان لنفسه. وهذا يعني أنَّ العلاقة الإنسانية بين أفراد البشر هي علاقة موجودات حرة يتنازل كل منهم عن قدرٍ مِن حريته في سبيل قيام مجتمع إنساني يحقق الخير للجميع. وهذا يعني بعبارة أخرى أن هذا المجتمع الإنساني المنشود لن يتحقق على النحو الصحيح إلا إذا ساد التسامح بين أفراده، بمعنى أن يحب كل فرد فيه للآخرين ما يحب لنفسه.

فالتعايش الإيجابي يشمل:

أ. التعايش بين أهل الملة الواحدة.

ب. التعايش بين أهل الملل المختلفة.

ج. التعايش بين الدول المختلفة سياسياً.

د. التعايش بين القوى الاجتماعية المختلفة.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.