آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 7:46 م

كونية الفكر الحسيني

حسين نوح المشامع

قال الله تعالى اسمه في سورة الحج آية «17»: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

وقال رسول الله ﷺ: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين».

تم تسجيل هذه الحلقة في أواخر شهر ذي القعدة من سنة ثماني وثلاثون ولأربعمائة والألف الهجرية، بعد عودتنا من رحلتنا السياحية في احد بلاد الجوار. بلاد تكتسي أراضيها وجبالها بالخضرة، وتسيل أوديتها وعيونها وشلالاتها مياه صافية رقراقة، من شهر يونيو إلى شهر سبتمبر من كل سنة ميلادية.

أطلت علينا كريمتي العزيزة وزوجها وأبناءها للاطمئنان علينا وعلى صحتنا بعد تلك الرحلة الممتعة، والتي لم يعكر صفوه متعتها إلا تلك الفترة الطويلة المضنية التي قضيناها انتظارا لصعود الطائرة. لذا تواعدنا لمناقشة محور هذه الحلقة في زيارة أخرى، بعد استعادة لقوتنا واعتدال أمزجتنا.

تواجدنا في الموعد المضروب في مجلس بيتنا، بعد صلاة العشاءين. وساعد على إنجاح هذه الحلقة عدم وجود من يتوجب على زوجيتنا الاحتشام منه، فزوج أختي العزيزة هو أخ زوجي الحاجة أم الأولاد.

بدأت الحاجة أم الأولاد كاسرة جدار الصمت بسؤال الحلقة: لما لم تضع عنوانا للحلقة بعد، فهل هناك مانع من ذلك، أم انك تركته سرا كعادتك لما بعد النقاش، يا حاج؟!

اعتذر منك سيدتي الكريمة، لم اتركه سرا، ولكن لازلت أشاور نفسي في عنوانها، وودت أن يتبلور معي في نهاية النقاش.

وسأل أخ زوجتي: ما هو محور حلقتك هذه الليلة؟

محور حلقتنا هذه يدور حول السبب أو الأسباب وراء بقاء ودوام الفكر الحسيني من مقتله في يوم عاشوراء سنة ستين للهجرة إلى يومنا هذا، رغم ضعف الحركة التي قام بها إمامنا الحسين سياسيا وعسكريا، مما يحتم أن تكون نتيجة ذلك وحسب الحسابات الرياضية المادية، الفناء لا البقاء والتنامي، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، نهاية وزوال حكومات امتدت أطرافها سعة، وكبرت قوتها ماديا وعسكريا وسياسيا وإداريا بما لا يوصف، وكان يتوقع لها البقاء والدوام إلى نهاية التاريخ.

وهل هناك سبب أو أسباب وراء بقاء فكر الحسين غير وقوفه في وجه ظلم بني أمية، يا حاج؟

نعم، يا حاجة، إن هناك أسبابا أخرى لبقاء الفكر الحسيني إلى يومنا هذا، غير وقوفه في وجه جبروت وطغيان بني أمية. كما إن عكس تلك الأسباب هي التي أدت إلى نهاية الكثير من الحكومات بمختلف أفكارها ومعتقداتها.

هل يمكنك يا أخي إعطائنا بعض الأمثلة التاريخية على دول قامت ثم انتهت لعدم امتلاكها ما لدى نهضة الإمام الحسين من مقومات البقاء والاستمرار؟!

أحسنت يا أخيه، تاريخيا هناك الكثير من الدول التي قامت متباهية بقوتها العسكرية والسياسية، وبدا أن البقاء والدوام واضحا في صالحها، ثم ما لبثت أن سقطت وزالت من ذاكرة التاريخ. منها ما هو وثني المعتقد، ومنها ما هو علماني الأفكار، ومنها ما هو أسلامي شيعي المذهب، أو سني.

نريد مثالا واضحا كان حيا يتنفس ثم مات ولم يبقى منه اثر يذكر، يا نسيبي؟!

الدول التي مرت بهذه الحالة كثيرة في تاريخ البشرية، ولكن أوضح مثال هو دولة المغول التي أسسها ”جنكيز خان“، التي كان يتوقع لها البقاء والدوام، بسبب قوتها العسكرية والسياسية والإدارية، ولكن تبنيها للعقيدة الوثنية التي لا تمتلك مقومات الحياة الإنسانية وبقاؤها، هو الذي أزالها من الوجود.

نريد مثالين آخرين من وسطنا الإسلامي، واحد سني وآخر شيعي، يا حاج؟!

لدينا الكثير من الدول الإسلامية، منها ما هو شيعي وما هو سني المذهب، انقرض رغم تبنيه للفكر الإسلامي. مثل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، في الطرف السني. ولدينا الدولة الفاطمية والادريسية والحمدانية، في الطرف الشيعي.

ولماذا انتهت هذه الدول رغم تبنيها للدين الإسلامي، يا أخي؟!

أكثر ما يذهب إليه المحققون إن ما سبب انقراضها من فوق وجه الكرة الأرضية هو تبنيها لخصوصيتها المقيتة، وصراعها المميت للصول إلى الحكم، ومنع الأشخاص من خارج تلك العائلة أو تلك القومية من الوصول إلى الحكم، حتى لو كان هو الأصلح.

هل عندك مثال عن دولة امتدت عبر التاريخ، وبين لنا سبب بقاءها طول عمرها أكثر من غيرها، يا حاج؟!

يعتقد المحققون أن بين الدول والإمبراطوريات التي امتد عمرها عبر التاريخ على غير العادة هي دولة الرومانية عندما اتخذت من مسيحية النبي عيس ابن مريم ديننا لها.

ولان ما هي تلك الشروط التي ملكتها حركة الإمام الحسين حتى مكنتها من البقاء والاستمرار، وأعطتها المقدرة على تحدي اكبر العقليات، والقوة على إقناع المؤمن فضلا عن مقارعة الملحد، يا زوج أختي؟!

أول تلك الشروط: ارتباطها بالأفكار السماوية مثل «التوحيد والنبوة والعدل والمعاد والحرية الإنسانية، وغيرها» تلك التي تمسكت بها الدانيات السماوية مثل «اليهودية والمسيحية والإسلام» وأثبتت بقاءها إلى يومنا هذا.

وما هو الشرط الثاني، يا أخي؟!

الشرط الثاني: ابتعادها عن الخصوصية المقيتة، حيث إن فكر الإمام الحسين لا يخص فئة بعينها أو قبيلة بعينها أو قومية بعينها، أو مذهب بعينة، بل هو فكر كوني يستطيع تبنيه كل حر أبي، حتى ولو لم يكن عربي، ولو لم يكن مسلما.

وهل لديك مثال على هذا، يا أخ زوجتي؟!

ألا ترون إلى حبيب ابن مظاهر العربي، وكذا زهير ابن القين الذي كان عثماني الهوى قبل كربلاء، وكذا جون مولا أبا ذر الغفاري العبد المملوك، ووهب بن عبدالله الكلبي الذي كان مسيحي الديانة. فحركته تفتح الأبواب على مصراعيها لاحتضان كل من يبحث عن الحرية الإنسانية. ومع ذلك لم تقدم المنتمين إليها للقتل ابتدءا بوعود كاذبة للحكم والسلطة. بل قدمت أبنائها قبل غيرهم، وأبقت الباب مفتوحا لتضحية الآخرين في سبيل الله وحده.

ما هو الشرط الثالث، يا حاج؟!

والشرط الثالث الذي اتفق عليه المحققون هو إعطاء كل ذي حق حقه مادام يعمل على إحياء التاريخ، سواء كان مسلما أو لم يكن، ومنتمي للفكر الحسيني أو لم يكن، على أن تكون فوائده أكثر من نفاياته.

على مثل من ينطبق هذا التصنيف الذي ذكرته، يا أخي؟!

على مثل عبدالله ابن عمرو ابن العاص الذي كان عدوا لدودا للحسين في حروب أمير المؤمنين ، ولكنه لما رأى الكعبة تتساقط عنها حجارتها بعد أن احرقها الجيش الأموي، قال كلمته للتاريخ وهو يبكي بكاء مرا: ”لو إن أبا هريرة قال إنكم قاتلوا ابن بنت رسولكم وحارقو كعبة ربكم، لقلتم ما من اكذب من أبي هريرة“، ولكن انتظروا تفرق كلمتكم وتشتت شملكم وقتل بعضكم بعضا.

وما هو الشرط الرابع، يا أبو نسب؟!

يذهب المحققون إلى أن من الأسباب التي تجعل من الفكر الحسيني متميزا عن غيره هي البقاء والتنامي المستمر للأمة التي كونها إلى هذه الساعة. فلو قارنا بين الأمة الحسينية والأمم الأخرى الباقية لهذه الساعة مثل اليهودية والمسيحية وحتى الهندوسية أو البوذية، لأرينا أن امة الحسين أكثر اتساعا وأكثر تناميا. *

وماذا عن الشرط الخامس، يا حاج؟!

بقاء الفكر الحسيني كما هو دون تحريف من بدايته وتاريخيا كما تشهد المراجع، وحاضرا كما يشهد الواقع، وعليه يقرر المحققون أن مستقبله سيبقى كما هو دون تغيير أو انحراف أو تحريف.

إذا هذه أسباب كونية فكر الأمام الحسين ، وكونه فكر دائم دوام التاريخ والمستقبل، وليس مجرد قيامه ضد بني أمية لظلمهم له ولأهل بيته، أليس كذلك يا أخي؟!

نعم هو كذلك يا أختاه.