آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

منهاج السالك الحسيني «7» توصيات للمستمعين عامّة

السيد أمين السعيدي *

فأول التوصيات: الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وكيفيّة الضَّبْط. وفيما يلي:

● ثاني التوصيات الضرورية: التزوّد من المَجالس قدر الإمكان: -

جاء رجل إلى الإمام علي بن الحسين عليه الصلاة والسلام يشْکُو إليه حالَه فقال صلوات الله وسلامه عليه: «مِسکىن ابنُ آدمَ له في کل ىوم‏ ثلاثُ‏ مصائبَ‏ لا ىَعتبِرُ بواحدة مِنهنَّ ولَوِ اعتَبَرَ لَهانت علىه المصائبُ وأَمْرُ الدُّنىا، فأمَّا المصىبةُ الأُولى فالىومُ الذي ىَنْقُصُ من عُمُرِهِ، قالَ وإنْ ناله نُقصانٌ في مالِه اغتَمَّ به والدِّرهَمُ ىَخْلُفُ عنه والعُمُرُ لا ىَرُدُّه، والثانىةُ إنه ىَستوفي رِزقَه فإن کان حلالاً حوسبَ علىه وإن کان حراماً عوقبَ علىه، قال والثالثةُ أَعْظَمُ من ذلک. قىلَ: وما هي؟ قال: ما من ىوم ىُمْسي إلا وقد دَنا من الآخرةِ مَرْحَلةً لا ىَدري على الجَنَّةِ أَم على النار...» [1] .

إنّ عُمُرَك رأسُ مالك في هذا الوجود القصير، إننا كما عَبَّر عنا مساكين، ولن تَرتفِع عنا هذه المَسكنة إلا بمَعرفة حقيقة وجودنا والغرض مِن إيجادنا هنا، وبقَدر المَعرفة لدى كل إنسان تَنعقِد له الدرجات في جميع مَنازل الوجود، و«دِراسة العِلم - كما عن سيد الشهداء - لقاحُ المَعرِفة» [2] ؛ فالعِلم سرُّ الأسرار، وبه تَفَوَّق آدم على الملائكة حينما سألهم الله تعالى بقوله ﴿أَنبِئُوني بأسماءِ هَؤلاء[البقرة: 31]، وبهذا العلم تُنال الحكمة ويَتحقق الاعتصام:

«لا تُخْلِ نفْسَك مِن فِكْرةٍ تُزِىدُك حِكمةً، وعِبْرةٍ تُفىدُك عِصْمةً» [3] ، إنها الأُنْسُ الجميل والسعادة الحقيقية حيث جاء: «فتَفكَّروا أىها الناسُ وتَبَصَّروا واعتَبِروا واتَّعِظوا وتَزَوَّدوا للآخرة تَسْعَدوا» [4] ، وقد وَصَف نبينا العظيم صل الله عليه وآله هذه السعادة لأبي ذر الغفاري رضوان الله عنه في حديثٍ اهتمَّ به أمير المؤمنين لدرجة أنه يرويه بنفْسه، قال:

«بينما أنا جالسٌ في مسجد النبي ﷺ إذ دَخل أبو ذر فقال: يا رسول الله جنازة العابد أَحَبُّ إليك أَم مَجلس العِلم؟ فقال رسول الله ﷺ: يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكَرة العِلم أَحَبُّ إلى الله مِن ألْفِ جنازة مِن جنائز الشُّهداء، والجلوس ساعة عند مذاكَرة العِلم أَحب إلى الله من قِيام ألْفِ ليلة يُصَلّى في كلّ ليلةٍ ألف ركعة، والجلوس ساعة عند مذاكَرة العِلم أَحب إلى الله مِن ألْف غزوةٍ وقِراءةِ القرآن كلِّه. قال: يا رسول الله مذاكرة العلم خيرٌ من قراءة القرآن كلّه؟

فقال رسول الله ﷺ: يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكَرة العِلم أَحبّ إلى الله من قراءة القرآن كلّه اثني عشر ألف مَرّة. عليكم بمذاكرة العِلم فإنّ بالعِلم تَعرفون الحلال مِن الحرام. ىا أبا ذر، مَن خَرج مِن بىته لِيَلتمِس باباً مِن العِلم كَتب الله عز وجل له بكل قدمٍ ثوابَ نبيٍّ من الأنبىاء، وأعطاه الله بكل حرفٍ ىَسمع أو ىَكتب مدىنةً في الجنة، وطالِبُ العلم أَحَبَّه الله وأَحَبَّه الملائكة وأَحبه النبىون، ولا ىُحِبُّ العِلمَ إلا السعىد، فطُوبى لطالب العلم ىوم القىامة. يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم خيرٌ لك من عِبادة سَنة صيامِ نهارِها وقيامِ ليلِها، والنَّظَر إلى وجه العالِم خيرٌ لك مِن عِتْقِ ألْفِ رَقَبة، ومَن خَرج مِن بىته لىَلتمِس باباً من العِلم كَتب الله له بكل قدمٍ ثواب ألف شهىد من شُهَداء بَدْر، وطالِبُ العلمِ حبىبُ الله، ومن أَحَبَّ العِلمَ وَجبَت له الجنة، وىُصْبِح وىُمْسي في رضا الله، ولا ىخرج من الدنىا حتى ىَشرب من الكوثَر، وىَأكل من ثمرة الجَنة، ولا يَأكُل الدُّودُ جسدَه، ويَكون في الجنة رفيق الخِضرٍ علىه السلام، وهذا كلُّه تحت هذه الآىة قال الله تعالى: ﴿ىَرفَعِ اللهُ الذِىنَ آمَنُوا مِنكُم والذِىن أُوتُوا العِلمَ دَرَجاتٍ[5] ، بل فيما أَسْنَدَه الطَّبَرانيُّ عن ابن عباس قال ﷺ: «من جاءه أَجلُه وهو يَطلب العلم لقي الله ولم يَكُن بيْنه وبين النبيِّين إلا درجة النّبّوة» [6] .

فنَتَجَ إذاً أنه ينبغي أن يَكون الحُضور مِن المُوالي مِن مُنطلَقٍ عَقَديٍّ إيمانيٍّ عِباديٍّ متّزِن، وليس مِن منطلَقٍ عاطفيٍّ فحسب؛ فإنّ تعظيم وإحياء شعائر الله مِن أَعظم القُرُبات إلى الله، ولابُدَّ مع قَصْدِ القُربة له تعالى أن يحْضر لهذه الشعائر بمنطق ووعي واتزان لِينال الأجر العظيم؛ أجر المواساة لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام الذي هو حقيقةً مواساة لأنفُسِنا نحن، وأجر العلم الذي هو تَنْوير النَّفس والسَّير نحو التكامل الجَوانِحي والجوارحي الباطني والظاهري.

● ثالثها: اختيار أفاضل المَجالس واجتناب الشبهات: -

فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه؛ أَسنَدَ البَرْقِيُّ عن زيد الشَّحّام عن أبي جعفر في قول تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه: «قلتُ: ما طعامه؟ قال: عِلمه الذي يَأخذه عمّن يَأخذه» [7] ؛ فالعِلم طعام عقلِك الذي هو أَعظم وأَقدس مَلَكة تمتلكها كإنسان، فاْنظر ماذا تُدْخِل فيه. ولا يَغِب عن بالك أنّ الكَيْف أهمُّ مِن الكَم والمعنى أهم من الكَثْرة. اختر أفاضل المَجالس عِلماً وعطاءً وورَعاً وتقوى، لا أَفاضلها أكلاً وشرباً وأجملها شكلاً وهَيْئة وأکثرها جماعةً وشباباً وأجملها صوتا.. اختر المَجلس الذي يروي طموحك العقلي والروحي لا المجلس الذي يعجب صاحبك أو التيار الفلاني أو يتواجد فيه جارك.. لكن هذا لا يَمنع أيضاً عن التّزوّد من المَجالس الأخرى والآخرين شريطة أن لا يَكون على حساب الواجبات والتكاليف الأهم، فالتزود من المَجالس الأخرى ومن الآخرين في هذه الحال لا مانع منه، بل يَكون أحياناً محموداً عند العُقَلاء مطلوباً لدى الشرع مستحَبّاً؛ ذلك لأن المَجلس - کما سَلف - ليس كلَّ نفْعٍه العلم، وإنما ىراد لغيره أيضاً؛ كنَيْل البَرَكة وأكلِ الفقير الطعام والتشجىع والمشارَكة والإحياء بعنوانه الأَعم والدَّعم والتلاقي والتعارف واستِظهار مستويات الخطباء وأهل المنبر واستِبصار مستويات أهل العلم.. للاحتجاز عن الشُّبُهات ومراوَدة مَنابر ومَجالس أَفاضلهم فيما يَستأنِف من الليالي والأيام فيما بَعْد..؛ ففي الخبر الشريف «إنَّ مَن صَرَّحَتْ له العِبَرُ عَمَّا بَىْنَ ىَدَىه مِنَ المَثُلات حَجَزَه التَّقْوَى عن تَقَحُّمِ الشُّبُهاتِ» [8] ؛ والتجنب للشُّبُهات ىحصل بالاستظهار؛ فإنه «فازَ مَن کانت سَجِىَّتُه الاستِظْهارَ» [9] .

لهذا تَفَطَّنْ إلى أنّ ما قول الإمام الصادق للفضيل بن يسار: «أتْجلسون وتَتحدثون؟ قال: نعم. فقال : أَمَا أنّي أُحِبُّ تلك المَجالِس»، فما قوله عليه الصلاة والسلام هذا إلا إشارة لعموم الفوائد المتنوّعة التي يَرجو تحقيقها وإشاعتها بين المؤمنين، أتجلسون؟ لماذا؟ لأن هذه المَجالِس طريقٌ اجتماعيٌّ مؤثِّرٌ وعظيمٌ للتزود والصلاح ومختلَف الخيراتِ الجِسام.

وأكِّد في ذات الحين، على مستوى التعلم ونيل الخير وإشاعته يَلزَم أن يَختار المؤمن المَجلس بمعىار الصلاح والعلم لا المقاىىس المادية والوجاهَتِيّة؛ ف «لا يَكمُلُ العقلُ إلا باتّباع الحق[10] ، ومُجالَسةُ الدّناءةِ شَرّ، ومجالَسةُ أهلِ الفُسوقِ رِيْبة[11] »، وأنت خَبيرٌ أنّ عَكْسَ مقالِ الإمام الحسين هذا نتَاجَه بالعكس.

الهامش:

[1]  الاختصاص، للشىخ المفىد: ص342.

[2]  بحار الأنوار، للعلامة المجلسي: ج75 ب20 ص128 ر11.

[3]  غرر الحكم ودرر الكلم، للشيخ عبد الواحد التميمي الآمُدي المتوفى 510 هـ : ص57.

[4]  المصدر السابق: ص471.

[5]  موسوعة أحاديث أهل البيت، للشيخ هادي النجفي: ج7 النظر إلى العالِم ص274 ح8771/ 4.

[6]  المعجم الأوسط، للطبراني: ج9 ص174 - مجمع الزوائد، للهيثمي: ج1 باب فضل العالِم والمتعلِّم ص123.

[7]  المحاسن، لأحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج1 باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسُّنّة ص220 ح127 - الكافي، للشيخ الكليني: ج1 باب النوادر ص49 ح8.

[8]  نهج البلاغة، صبحي صالح: ص57 - غرر الحكم ودرر الكلم، للتميمي الآمدي: ص 472.

[9]  انظر غرر الحكم ودرر الكلم، للآمُدي: ص472.

[10]  أعلام الدين، للديلمي: ص298.

[11]  وسيلة المآل، لأحمد بن المفضل الحضرمي: ص183.
ماجستير فقه ومعارف إسلامية وفلسفة ، مؤلِّف ومحقِّق وأستاذ حوزوي.
- موقع السيد أمين: www.anbyaa.com