آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:34 م

العرب والمتغيرات في موازين القوة الدولية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

ليس جديداً القول، أن منطقتنا العربية، كانت دائماً في القلب من التحولات السياسية والاستراتيجية، التي تجري فوق كوكبنا الأرضي. وكانت عوامل قوتها، باستمرار، للأسف من أسباب ضعفها. والحديث عن عناصر القوة، هو حديث عن ثقل الجغرافيا والتاريخ. وليس من أمة بين الأهم عانت ثقلي الجغرافيا والتاريخ، كما عانت الأمة العربية.

والحديث عن الجغرافيا، هو حديث عن الثروات الطبيعية، المواد الخام، والإمكانيات الزراعية. وهو حديث عن البحار، والثروات الكامنة فيها، وهو حديث عن الممرات والمعابر الاستراتيجية، وعن علاقة وصل بالقارات القديمة الثلاث.

أما التاريخ، فليس مجرد سجل راكد لتراكم الأحداث، بل إنه حكاية ما تختزنه الأمة من تراكم حضاري، وإبداعات وعطاء إنساني، وهو أيضاً استيعاب موضوعي وخلّاق لقوانين حركته، ووضعها في سياق الحاضر والمستقبل.

والأمة العربية، مثقلة بجغرافيتها وتاريخها، وكلاهما من الثراء، بما يفوق كل تصور. فهي ملتقى القارات الثلاث، وهي طريق الحرير، وهي المنطقة العازلة بين المياه الدافئة، والمياه المتجلدة. وهي صحارى ووديان وواحات وجبال، خلجان ومحيطات. وبها أكبر مخزون في العالم لعصب الصناعة الحديثة. ومضائقها وممراتها البحرية اختزلت المسافات، بين الشرق والغرب. أما تاريخها، فقد ظل منذ سقوط الدولة العباسية، ثقلاً كبيراً عليها. وتكفي الإشارة، إلى أن جميع الأديان السماوية انطلقت من أرضها.

لذلك كله، كان العرب، في القلب من كل التغيرات في موازين القوة الدولية. ولأنهم في حال ضعف وعجز، لم يتمكنوا من تقرير أقدارهم، في كل التسويات والقسمة، التي جرت بين صناع القرار الكبار، منذ سقوط السلطنة العثمانية، حتى يومنا هذا.

مر أكثر من مئة عام على توقيع اتفاقية سايكس - بيكو التي قسم بموجبها المشرق العربي، ومئة عام منذ وعد بلفور، الصهاينة، بتأسيس وطن قومي لليهود، فوق فلسطين. ومنذ ذلك الحين، حتى يومنا هذا، والخرائط السياسية العربية، تكتسب مشروعيتها، من خرائط لم تكن من صنعها، ولم تتم وفقاً لإرادتها، بل إن رسم تلك الخرائط، لم يأخذ بعين الاعتبار حقائق الجغرافيا، والتاريخ، بل خضع لأطماع ومصالح المنتصرين.

لقد سلمنا جميعاً، بأن تلك الخرائط، قد رسمت كياناتنا الوطنية، وحددت شكل عالمنا. قبلنا بالمر، ولكن صناع القرار الأممي لم يكتفوا بذلك. لقد ركزت خرائطهم الأولى، على المصالح والمعابر والممرات، وعلى الثروات، ولكنها تجاوزت البشر. وتم النظر لهم ككتل هلامية، مهملة. لكن تجارب ما بعد الحرب الكونية الأولى، أكدت، رغم الواقع المأساوي الذي أحدق بالأمة، أن هؤلاء البشر لديهم من المحفزات والإرث الحضاري، ما يجعلهم عصيين على رفع الرايات البيضاء. فكان الاعتراف بوجودهم، هو المقدمة اللازمة للقضاء على أية محاولة مستقبلية للانعتاق والتحرر.

وبعد التيقن والتمكن من الجغرافيا، كان لا بد من تدمير التاريخ، وإسقاط المخزون الحضاري، أو تشويهه. ولم تكن من وسيلة ناجعة لتحقيق ذلك، أكثر من تدمير عناصر الوحدة والتماهي، وبعض الهويات ما قبل التاريخية. ومن هنا كان تصريح الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، بأن خرائط سايكس - بيكو تجاهلت حقوق المظلومين من أقليات دينية، ومذهبية وإثنية. لكن ظروف ما بعد الحرب الكونية الثانية، واشتعال الحرب الباردة، عطلت مشروع ترومان.

وكان سقوط حائط برلين، وتذرر الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، وانتهاء الحرب الباردة، فرصة لاستعادة مشروع ترومان، في بعث الهويات الطائفية. وكان العراق، البلد الذي يضم مكونات دينية ومذهبية وإثنية، هو البلد المثالي، لاختبار هذه التجربة. وتحقق ذلك عملياً، منذ عام 2003م، حين سقطت عاصمة العباسيين، بغداد. ولتكون الهجمة، كما جرت تداعياتها، هجمة موجهة، وبشكل مباشر ضد الجغرافيا والتاريخ، من خلال الفساد والنهب ومصادرة الثروات من جهة، ومن جهة أخرى، تدمير صيغة الاندماج بين مكونات المجتمع الواحد، ليتحول العراق العظيم، إلى موطن لكانتونات الطوائف والإثنيات، المتصارعة مع بعضها بعضاً.

لم يكن ذلك ليحدث، لو لم تتغير موازين القوة الدولية، وينفرد اليانكي الأمريكي بالهيمنة على صناعة القوة، ومؤسساتها، بما في ذلك الهيئات والمؤسسات الدولية، ومن ضمنها هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي.

وهكذا رأينا أن أي تحول في موازين القوة الدولية، هو استثمار لثقل جغرافيتنا وتاريخنا، بالضد من مصالحنا وحقنا في تقرير المصير. وهكذا باتت نتائج الحرب العالمية الأولى بالنسبة لنا، هي سايكس - بيكو، ووعد بلفور، والانتداب والحماية والوصاية. كما كانت نتائج الحرب العالمية الثانية، تعني بالنسبة لنا، تشكيل دويلة ««إسرائيل»»، كإسفين في خاصرة الأمة، يحول دون حقها في التقدم والوحدة والنماء، والتقاء العرب في مشرقهم ومغربهم.

وكانت نهاية الحرب الباردة بالنسبة لنا أيضاً، تعني احتلال العراق وتدمير قوته العسكرية، وتوسع الصهاينة في الاستيلاء على الثروة المائية، من بحيرة طبرية ومياه النيل، ونهر اليرموك، ومضاعفة بناء المستوطنات، والجدران العازلة، والاستيلاء بالقوة على المزيد من الأراضي الفلسطينية.

وعنت نهاية الحرب الباردة أيضاً، انطلاق ما يسمى «الربيع العربي»، لتصادر أوطان، ولتبعث هويات التطرف والتكفير. وليعاد لمشروع ترومان، الذي بشّر به قبل أكثر من سبعين عاماً، من الآن ألقه وحضوره.

ترى، هل يتكرر المشهد مجدداً، ونحن على بوابات انتقال جديد في موازين القوة الدولية؟ ونكون مجدداً خارج التاريخ، أو في أحسن الأحوال على هامشه؟ أم أننا سنوفر للمرحلة القادمة مستلزماتها؟ وأولها الاتفاق فيما بيننا على الحدود الدنيا، من العمل العربي المشترك، والالتزام بالمواثيق والمعاهدات التي سبق للقيادات العربية أن أقرتها؟ أم أن قدرنا دائماً هو البقاء خارج التاريخ؟!