آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 1:23 م

قصةُ اللُّغة

طاهرة آل سيف

للقلمِ علاقةٌ أثيرة مع سنيِّ عمري الأولى، أصابعُ طفلة كانت تراقصُ قلماً وهو يرسم برأسه مايخيِّلُه رأسها، مطواعاً في يدِها، دلَّتهُ على البيوتِ فرسمها وعلى الحدائقِ فلونها، وراح يُخربش خربشاتٍ تَرِفَةٌ كلما سوَّلت لها نفسها أن تملأ الورق الأبيض ألواناً وجمالاً، ثم كانت الأحرف وكم كانت حكاية الأحرف غنية مشبعة تُزهِرُ نطقاً ولفظاً وإن كانت لثغاء بالسين، أو لدغاء بالراء، وأناشيد وألحانٍ تغنى بها الأطفال، ذات نغمٍ يزخرُ بالحب، حُب اللغة وتنوير اللسان في شكل ثرثراتٍ أحياناً وحكاياتٍ أحياناً أخرى، ثم ألقٌ ساحر وتناسقٌ فاتن حين تشابكت الأحرف وامتدت الكلمات على الأسطر، كنوتات موسيقى، عند الهجاء وقعها على الآذان رائق. فكانت اللغة في عينيَّ كساحرةٍ بعصا تُقلِّبُ الأشياء على جانبيها فتظهر تارةً ورداً وتارةً عصفوراً وتارةً ريشاً والشيء بيِّن على حاله تراه بعينيك، سحرٌ وماكذب من أحبها، كلمة في اللغة العربية يُمكنك زخرفتها بشتى الحركات تعطيك معانٍ مختلفة والرسمُ باق، كسورها وفتحاتها وشدَّاتُها وضمَّاتُها كقائدُ أوركسترا يُخفِض ويرفع ويشدُّ ويُرخي ثم يُطرب أذنك بأعذب الألحان، ولك في كنفِ جمالها أن تمتع ناظرك فترى حُسن خطوطها وانسجام رسمها، وتناسق زخرفها، ومقام فنِّها، يلوِّن الرسَّامون من أحرفها أجمل اللوحات، ويخطُّ الخطاطون برسمها حروفاً سافرة، بيانها ساحر وحرفُها جليّ، مغبونٌ من أزدرتها نفسه وفضَّل عجمنة لسانه على عروبته الأصيلة، ومحرومٌ من خبأ جمالها بين طيات لسانه كي لايُفتضح أمره بعروبتها، ومفتونٌ من عشقها كما عشقها الغرب وافتتنوا بها افتتاناً عظيماً، ومن أجمل ماقيل فيها حين عرفها المستشرقين «من أغرب ماوقع في تاريخ البشر انتشار اللغة العربية، إذ كانت غير معروفة فبدت فجأة في غاية الكمال سلسة غنية كاملة، ليس لها طفولة ولا شيخوخة، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها» - المستشرق الفرنسي إرنست رينان.

كما ويذكر المستشرق الهولندي راينهارت دوزي في كتابه «الإسلام الأسباني» فيقول: فأقبل الأسبان في بلاد الأندلس على تعلم العربية لعشقهم للغة وآدابها حتى أن كاهن قرطبة وقتها كان يشكي في ذلك العصر من أبناء جلدته - نصارى الأندلس كانوا يقبلون على قراءة كتب المسلمين العلمية والفقهية لا للرد عليها بل للتمكن من هذه اللغة التي أحبوها.

وكانت العربية ذات حضور طاغ في شبه الجزيرة الأيبيرية - أسبانيا والبرتغال الحاليتين - لسبعة قرون متتالية ولم تكن هناك مقاومة للغة حيث الحكام أعطوا الحرية لجميع الناس في الإحتفاظ بديانتهم فتغلغلت مفردات العربية إلى الأسبانية حتى بعضهم سمي بالمستعربين - mozarabs - لأن لغتهم مع الوقت أصبحت شبيهة بالعربية، امتدت اللغة العربية حيث كانت في زمنها الذهبي لغة العلم والأدب وتغلغلت في دول القارات ودخلت إلى 22 لغة منها الإيطالية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والتركية والفارسية والإندونيسية، ومن الطريف ذكر بعض المفردات ذات الأصل العربي عند الأسبان، كان طبق من الأطباق الفلوكلورية اسمه - الپاييّا - قصته أن الصيادين كانوا يعمدون إلى جمع كل ماصادوه من السمك ولم يستطيعوا بيعه خلال نهار العمل في السوق وكانوا يأكلونه جماعةً بعد إضافة الأرز والبهارات إليه وكانوا يشيرون إلى هذا الطبق على أنه طبق البقية ومالبث أن تحرف اسمه ليصبح الپاييا، وكان تغلغل العربية في الإسبانية قد ترك تأثيراً صغيراً في صياغة الكلمات الأسبانية هو زيادة ياء النسبة إلى نهاية بعض الكلمات الأسبانية لتحويلها إلى صفة انتماء، كما في كلمة baladíg أي «سوقي» مثلما هو واضح كلمة بلد مستعارة بدورها من العربية، ويناهز عدد المفردات العربية في الأسبانية الأربعة آلاف أكثف ماتكون في مجالات الحرب والزراعة والبناء، ومن تداخلها مع مفردات الأسبان استطاعت أن تنفذ العربية إلى باقي الدول الأوروبية بشكلٍ غير مقصود. كما وأن أصل كلمة لوغارتيم في علم الرياضيات يعود للترجمة اللاتينية للكلمة العربية الخوارزم حيث يعود اللوغارتيم للعالم الإسلامي الخوارزمي، ولكن بعد عهود من الزمن عادت معظم اللغات إلى تقليص ممنهج للمفردات العربية الدخيلة عليها كما في التركية حين كانت الكتابة بالأحرف العربية حتى عهد مصطفى كمال أتاتورك الذي استبدل الكتابة بالأحرف العربية إلى الأحرف اللاتينية وخضعت اللغة التركية إلى هجمة واسعة لتصفيتها من المفردات العربية، لكن لم تزل سيطرة المفردات العربية تكتسح اللغة التركية بشكلٍ واسع حتى اليوم، وما أجمل ماكتبه ابن منظور في مقدمة معجمه الكبير «لسان العرب» ﴿إن الله جعل العربية فوق كل لغات الشعوب والأمم، والواقع أن كل من اهتدى للإسلام يميل إلى تعلم العربية من أجل أن يحسن قراءة القرآن وفهم آياته، واللغة العربية هي الوحيدة في العالم التي لاتزال كتبها مفهومة في اللغات الحية ولو كانت مكتوبة منذ 1400 سنة، غير أن الإفتخار باللغة لم يقعد العرب عن الإجتهاد في إغناء لغتهم من خلال تعلم لغات الشعوب الأخرى والإطلاع على علومهم وآدابهم حتى إذا نضجت ثمار هذا الإمتزاج صارت اللغة العربية في زمنها الزاهر هي اللغة العالمية التي لاتقدم ولانهوض من دون إتقانها أو الإلمام بها، وكان على كل طالب علم طموح يرغب في اكتساب درجة عالية في علومه أن يتعلم العربية مثلما يتعلم طلاب اليوم الإنجليزية للإطلالة المباشرة على علوم العصر التكنولوجية والطبية وغيرها، ويذكرني ذلك بأستاذة اللغة الإنجليزية عندما كنتُ في الجامعة حين قالت لنا في أول محاضرة للتعارف أن اللغة الإنجليزية مفتاح الثقافات ونافذة الطلاب على مختلف العلوم في زمننا هذا،

بيدَ أنني لم أفكر يوماً أن أدرس اللغة العربية دراسةً أكاديمية بل وكنتُ قد جعلت أحد الخيارات في التخصص الأكاديمي دراسة اللغة الإنجليزية، لكن لم يفتؤ سحر العربية يُعالج ذائقتي منذ الصغر، وحق له من امتدحها وقال:

إن الذي ملأ اللغات محاسن جعل الجمال وسره في الضادِ.

كنتُ في نقاشٍ جدلي مع إحدى الصديقات حول هيمنة المفردات الإنجليزية على ألسنتنا، وإن كانت لغة العلم ومفتاح المعرفة في زمننا اليوم وعلى كل من أراد أن يُثبت ثقافته وعلمه أن يُلحن حديثه بكلماتٍ جُلَّها انجليزية وقليلها عربية أو العكس لافرق في ذلك، وكم يحزنني ذلك الخجل الذي يخالط الألسنة التي لم تُلحن حديثها على أنها لم تواكب العصر، قالت لي صاحبتي: هي حقيقةً ماذا ستفيدني العربية في هذا الزمان! اعتصر لساني بعد قلبي ولم أتدارك الإجابة ولكن حبذا هوية جللّها الله ورفعها حين جعل منها لغة آخر كتابٍ سماوي، تلك المعجزة الإلهية اختار الله لها اللُّغة العربية، رفعتها سالف العصور حتى طالت سماء العلوم والآداب والمعارف وهاهي الآن تشكو الألسنة من الزخرفة الرائجة والتمويع الدارج، ولو نطقت لأخذت أحرفها واستعادت كرامتها وارتقت نحو السماء تصونها الملائكة وتدوِّن بها رُقع القرآن وتحجبها عن ألسنة المفرطين حين طالبوا أن تُكتب بالأحرف اللاتينية شأنها شأن بعض اللغات.

إن لم يكن هذا العصرُ عصرُ اللغة العربية لكن حبذا هويةً نحملها على ألسنتنا صداها أبعدُ من مجرد تواصلنا مع بعضنا البعض، إرثٌ قديم قِدم الإسلام والقرآن، وترجمان الجمال في شعره وأدبه ونثره وحكاياته، غنيةٌ بنفسها لاتحتاج لمفرداتٍ دخيلة تغنيها، وراقية بلسان محمد النبي تفخر ُ به حين حدَّث الناس برسالة السماء بحروفها، وجلاَّها بنطقه صوت جبرائيل حين قرأ عليه التنزيل، عزيزةٌ من إرث، وفاخرةٌ من هوية، هي أثمن مانعلِّمه لأولادنا والأجيال، علَّهم يجدوا بها نبراس الألسنة فيعيدوا لها مجدها السابق.

في يوم 18 ديسمبر من كل عام قررته الأمم المتحدة يوم اللغة العربية العالمي والذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، يومٌ جدير بالإحتفاء ومراجعة اللسان العربي لكلِّ الناطقين بالعربية.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 15 / 12 / 2017م - 1:11 م
تابعي الفكر والكتابة. نحن نحتاج أقلام مستقيمة لا مأجورة ولا مكسورة. كل التوفيق لك. اعجبني الموضوع من ألفه إلى ياءه.
2
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 15 / 12 / 2017م - 5:37 م
أشكرُ تشجيعك ، قراءة مثمرة من كاتب متميز تضيء درب كاتب في أول دربه .
3
الدكتور أحمد فتح الله
[ تاروت ]: 16 / 12 / 2017م - 11:52 م
أستاذة طاهرة

الديباجة منمقة ناعمة تأخذ القارئ إلى مضمون النص بسلاسة.
أود فقط أن أضيف أضاءة بسيطة لهذا المضمون الجميل، ولو بالإشارة لأن هذا تعليق وليس مقال، أن اللغة صناعة بشرية مثلها مثل باقي الأدوات التي طورها الإنسان في هذا المشوار الطويل من حياته. كباقي الأدوات، اللغة:
١) تؤدي الوظيفة المناطة بها وتتطور حسب تطور المستخدم، وهو الإنسان،
٢) ليس هناك لغة أفضل من لغة، أو أجمل أو غير ذلك، لأن هذه معاير خارجية عن اللغة، إضافة إلى أنها نسبية وغير موضوعية.
٣) اللغة تسمو بسمو أصحابها. حين كان المسلمون في عز حضارتهم، كان وضع اللغة العربية مثل وضع اللغة الانجليزية في أيامنا تمامًا. مَنْ كان يريد أن يتعلم الطب أو غيره عليه أن يتعلم اللغة العربية، أولًا، كحال الناس اليوم مع اللغة الانجليزية. (هذا عندي يشاكس، مع أشياء أخرى، نظرية النسبية اللغوية (تأثير اللغة على فكر وتفكير أصحابها، ونظرتهم للكون وغير ذلك.))
4) أما بخصوص دخول مفردات من لغة إلى لغة أخرى، فهو أمر طبيعي، هذا من عملية التثاقف، وهناك كلمات عربية كثيرة دخلت في اللغة الإنجليزية أيام انتشار اللغة العربية، وفي أيامنا أيضًا بسبب العولمة والإعلام.
أستاذة طاهرة
واصلي هذا الألق في مقالات قادمة مع دعائي لك بالتوفيق.
4
وديعة
[ القطيف ]: 17 / 12 / 2017م - 5:01 م
مقال ثريّ ورائع ، استمري ياصديقتي ..
5
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 17 / 12 / 2017م - 10:13 م
دكتور أحمد فتح الله
أشكر إضائتك التي أنارت أفكار المقال ، وإن اختلفت النظرة النسبية للمضمون ، يسعدني الخروج عن دائرة القراءة الصامتة وهذا ما يُثري قُرَّاءُ الأفكار وكُتَّابُها والتمس لنفسي عذراً حين قسوتُ على باقي اللغات على غير قصد ، لكنني لا أستطيعُ إلا أن أفي للعربية في عهدها الذي شارفت فيه على المشيب ، أكرر شكري .