آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

بؤس المبدعين «2»

محمد الحرز * صحيفة اليوم

ثمة نقطتان، خلاصة المقالة السابقة، ارتباط البؤس بالمبدع، وتساءلنا عندها عن معنى حياة البؤس لديه، ولماذا هو حصرا؟ ولم نفصل في إجابته. ثم تطرقنا إلى مثالين مبدعين غربيين وأشرنا إشارة مختصرة إلى سبب اختيارهما من حيث حضورهما القوي في مفاصل النظرية النقدية في الثقافة الغربية.

الآن سنفصل في النقطة الأولى. وسأبدأ بملاحظة المفكر والكاتب توفيق السيف وردت في معرض تعليقه على المقالة السابقة، يستنكر فيها المبالغة غير المبررة في اعتبار العوامل المادية هي المسؤولة أولا وأخيرا عن معاناة وبؤس حياة المبدع دون الأخذ بعين الاعتبار بالمعاناة الروحية والذهنية التي لا ترتبط بالضرورة بالعوامل المادية، ويضرب مثالا على المعاناة عند صناع العلم والتقنية رغم عيشهم في طبقة وسطى ميسورة الحال. قد يكون صحيحا ما تشير إليه الملاحظة عن وجود معاناة روحية ذهنية. لكن لا يمكن تغليب معاناة على أخرى أو فصل الواحدة عن الأخرى عند النظر في حياة المبدع، ولا يمكن استبعاد فرضية أن تكون إحدى المعاناتين تتغلب على الأخرى في حياة هذا المبدع أو ذاك حسب الظروف البيئية والاجتماعية والتربوية والثقافية. لكن دون أن يتلاشى تأثير أحدهما على الإطلاق. ربما صناع العلم والتقنية أقل بؤسا ومعاناة مقارنة بالمبدعين والسبب يكمن في أن الأول لا يتعامل مع الإنسان والحياة والعالم مثلما يتعامل المبدع، مادته الخام لا تتجاوز مختبره بينما المبدع مادته حياة الكائن وتاريخه على هذه الأرض وهنا سر المعنى عنده في البؤس وخصوصيته. وهناك نماذج عديدة تدل دلالة قاطعة على تنوع مصادر المعاناة ودن الفصل عند المبدع بالخصوص وسأكتفي بتجربة مررت بها.

فترة التسعينات الميلادية كنت مهووسا بالحصول على الكتب. كانت البحرين هي المنفذ الوحيد المتاح لشرائها، وكانت مرحلة اقتناء الكتاب تمر بثلاث خطوات، سؤال الأصدقاء في البحرين عن كتاب محدد، كانت أولى الخطوات، وعادة ما كانت مكتبة الشاعر علي الشرقاوي في مدينة عيسى هي المرجع، ثم تأتي مرحلة شد الرحال والسفر، إذا تأكد أن الكتاب موجود. بعدها يبدأ التفكير في طريقة ما، في تمرير الكتاب من الجمارك، وإذا كنت سيئ الحظ، يصادر منك الكتاب. هذه الخطوات مررت بها مع أغلب الكتب التي بحوزتي. أتذكر يوم كنت أبحث عن كتاب «مدارات حزينة» لكلود ليفي شتروس عانيت أشد المعاناة ماديا ومعنويا في الحصول عليه. وعشت مع الكتاب أياما وليالي، والغريب أنني مثلما أحببت فيه، هذا التمرد الذي جاء بعد معاناة، على تقاليد العلوم الإنسانية في الخمسينات، وبالذات في الإنتلوجيا، وأثره الكبير الذي تركه تمرده هذا، على بعض الأدباء كجورج باتاي، أو المؤرخين كريمون آرون. كنت أرى أن إرادتي في حصولي على الكتاب تضاهي تمرده وتعبه ومعاناته.