آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:19 م

الماء والطين

المهندس هلال حسن الوحيد *

خلق الله الحياةَ من الماءِ والإنسانَ من الطين فلا حياةَ دونَ طينٍ أو ماء.

مررتُ بصانع الفخار أمس، تذكرت بيتنا القديم لا مبرداً للماء أو خزاناً غير ما يكفي ليومٍ واحد. إن عطشنا ليس سوى ”الحب“ بكسر الحاء الذي يملؤه الماء. لو هندستُ الكلمةَ لحولتُ الكسرةَ إلى ضمة. كاسٌ صغيرٌ فوق زيرٍ صغيرٍ في الظلِّ يرشحُ ماءً من الأسفل ويبردُ في المساء. تصب فيه أمي ماءً جلبته على رأسها أميالاً لنشربَ قبل أن يكون في الحارةِ بئراً وبعده المحطة الآلية وكلاهما كانا قبل عيدِ المرأة.

في ظل النخلة ”حِب وجرة“ مملوءةٌ من ساقيةِ الماء ونارجيلة يعبُّ منها الجميع. عندما يروي النخلاويُ ظمأهُ في حفلةِ التنبيتْ أو التحدير أو الصرام من الجرة التي تدور بينهم لا بد أن يشعل رأسَ النارجيلة بشيءٍ من الخشك، هكذا كان كأسهم. في وسط النهار راحةٌ رسمية يستقطعهَا النخلاوي لأكلِ العصيد الذي حمصتْ طحينتهُ أمي وعجنتهَا بسمنها البقري وصبتها في صحنٍ واحد. لا يسمن النخلاوي فهو يأخذُ شكلَ النخلةِ التي يعتني بها، صلبةَ الجذعِ مرفوعةَ الرأسِ مليئةً بالرطب.

كان يجري شرقي منزلنا جدولُ ماءٍ من عين تاروت ويصلنا للزرع. لا نزهد أنا وإخوتي في مشاركة بعض الضفادع والسلاحف الصغيرة أن نشرب الماء بعد أن نذوذهمْ بأيدينا ونملأ أكفنا منه. لو رآنا طبيبُ اليوم لنصحنَا بألا نعود لمثلها. هكذا الان حالُ ملايينٍ من البشر، لا يتسنى لهم الماء الذي نسميه صالحاً للشربِ والاستهلاكِ الآدمي.

ملئت الزيرَ بالماء البارحة. مع أنني نسيتُ قاموس الكلماتِ والتاريخ القديم  لكنني تذكرت طعم الماء. ليس إلا لأني أعتقد بوجوبِ الحرية وأن كُلَّ حرٍ متى ما حبسته ماتَ حتى الماء. من صفاتِ الماء النزول والهبوط والجري وشق الصخور وري البشر، والشجر كلها أفعال الحي، إن حبسته في المادة غير التي يعرفها مات. ليس من الضرورة أن تختلف الصفاتُ الجوهريةُ للماء إن وضعته في الزير، فلن تصبح ذرةُ الاوكسجين اثنتان بدلاً من واحدة لكل جزيء ولكنه يشبهك أيها الإنسان يبقى جوهرك دون تغييرٍ ولكن عواصف أحساسيك تهدأ وتثور بمقدار حريتك.

عندما تشرب الماء الحرَّ في الطين تذكر أنك من طينٍ لم يعطك الله من صفاتٍ وفضائل إلا ما أعطيت لنفسك وسوف تبقى طيناً يأتي منه القادم من الناس، يبني حضاراتٍ لآلاف السنين لا يستطيع غيره أن يضاهيها في الجمالِ والرونق.

رحم الله الإنساني إيليا أبو ماضي:

نَسِيَ الطينُ ساعَةً أَنَّهُ طينٌ

حَقيرٌ فَصالَ تيها وَعَربَد

وَكَسى الخَزُّ جِسمَهُ فَتَباهى

وَحَوى المالَ كيسُهُ فَتَمَرَّد

يا أَخي لا تَمِل بِوَجهِكَ عَنّي

ما أَنا فَحمَة وَلا أَنتَ فَرقَد

أَنتَ لَم تَصنَعِ الحَريرَ الَّذي

تَلبَس وَاللُؤلُؤَ الَّذي تَتَقَلَّد
أَنتَ لا تَأكُلُ النُضارَ إِذا جِعت
وَلا تَشرَبُ الجُمانَ المُنَضَّد
أَنتَ في البُردَةِ المُوَشّاةِ مِثلي
في كِسائي الرَديمِ تَشقى وَتُسعَد

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 18 / 3 / 2018م - 4:29 م
قرأته مرات ومرات مقدمة جاذبة وختام مؤثر بالنفس ، كم أذهلتني البلاغة ، دام القلم وفكره .
مستشار أعلى هندسة بترول