آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

السرعة باعتبارها ظاهرة وجودية

محمد الحرز * صحيفة اليوم

 هناك هوس في عالم اليوم بالوقت يصل حد المرض، هوس بكل ما يتعلق بمظهرها المتمثل بالسرعة. لم تعد السرعة ظاهرة فيزيائية فقط، بل أصبحت حالة وجودية كما يقول ميلان كونديرا. تراها ماثلة أمامك في الحياة اليومية، في المطاعم السريعة على شاكلة ماكدونالد أو كنتاكي، في صنع التقنيات الحديثة الأكثر تطورا، مثلا، في إنتاج الأدوات التي تحقق سرعة فائقة في حراثة الأرض أو في سرعة النمو النباتي أو الحيواني. تراها ماثلة أمامك وبقوة في عالم الاتصالات كما هو الحال في معدل تزايد سرعة الانترنت مع تطوره التقني، كذلك ينطبق الأمر مع شبكة المواصلات، فاستحداث طرق حديثة جميعها تعتمد على السرعة سواء في نقل المسافرين من مختلف المطارات أو محطات القطارات أو الموانئ المنتشرة في شتى مدن العالم أو نقل البضائع أو البريد اليومي أو حتى في خدمة الإسعافات السريعة هي ما تسم طريقة الحياة المعاصرة. تراها في زحمة المدن والكثافة البشرية حيث لا وقت للإنسان فيها أن يتأمل نفسه مثل مرآة بسبب تلك الكثافة الحاجبة. 

تراها في اللهاث المستمر على إنجاز سرعة العمل وتقديسه وطغيانه على كل ما عداه من مساحات الحياة اليومية للإنسان. تراها ماثلة أمامك في الفن والموسيقى والأدب بشكل عام حيث الفن المفاهيمي الذي يرتكز على فكرة خاطفة لا تكلف صاحبها الجهد والوقت كما في الرسم التقليدي، موسيقى البوب وما يرافقها من صخب وارتجال في الألحان والكلمات والمظهر الجسدي للمغنين وعنفوان حركاته هي بالنهاية تخل عن السلم الموسيقي والمقامات وكل ما يمت بصلة بالتقليد العريق للموسيقى، الشعر والرواية أصابهما ما أصاب البقية، الإيجاز وأسلوب التكثيف والاختصار وظهور التلاخيص واعتماد الشذرات وترك المطولات هي ما يمتازان به الآن. حتى العلاقات الإنسانية والاجتماعية أصبحت تعتمد بشكل كبير على السرعة، لا يوجد ثبات في العلاقات لا على مستوى الصداقة أو الأسرة، فحياة الجميع خاضعة لبوصلة السرعة، حيث هي التي تحدد شكل العلاقة، وبأي اتجاه تسير، وبالتالي صفات السرعة لا تؤدي إلى الاستقرار بل إلى الضياع والتيه، لا توجد نقطة ارتكاز ثابتة في حياة الفرد ينطلق منها ثم يعود، دائما عينه مركزة على نقطة في البعيد لا هي في الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل وكأنه يخلق زمنه الخاص الذي يناسب وضعية السرعة تلك، الزمن في حالته مجرد سيلان، متحرك في اتجاه واحد لا يحيد عنه ولا يخرج عن مساره مهما حاول ذلك. 

في رواية البطء يقرن الروائي التشيكي ميلان كونديرا بين البطء والذاكرة وبين السرعة والنسيان ويضرب مثلا عليهما برجل يسير في الشارع محاولا أن يسترجع ذكرى ما. لكنها تهرب منه فيبطئ من مشيه بشكل آلي حتى يكاد أن يتوقف. بالمقابل يحاول شخص أن يتخلص من ذكرى حادث سيئ فيعمد إلى تسريع خطواته بطريقة لا شعورية. وهو بهذين المثالين كأنه يريد القول: النسيان هو الهدف والغاية من طغيان السرعة على حياة الفرد ويفسر النسيان بالخوف والهروب والانقطاع عن حاضره، والبطء بالعودة إلى الماضي والتاريخ والذاكرة.