آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

طامعٍ في ازديادِ!

المهندس هلال حسن الوحيد *

تعبٌ كُلّها الحياةُ فما أعجبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ.

من بديعِ فلسفةِ الحياةِ والموت قصيدةُ أبي العلاء المعري التي لو كتبها اليوم في المعرة لم يذكر الحياةَ  فيها بل اختصرَ فلسفةَ الوجودِ في الموت. لم يعش المعري سوى ثلاثة وثمانين حولاً ولكنه أجملها في ”تعبٌ كلها“. أصابَ تعبُ الدنيا أبا العلاء في الرابعة وافقدهُ بصره. سبق زهيرُ بن أبي سلمى المعري في وضع حدودِ الحياة وكأنَّ الثمانين كانت الفاصلَ بين الهزلِ من الحياة وجدها:

سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعش

ثمانين حولاً لا أباً لك يسأمِ

عبر الشاعرانِ عن مفارقةٍ عجيبة يقدمها البشرُ وهي حبهم ما يكرهون. يكرع البشرُ من كأسِ الدنيا فمتى ما صفا الكأسُ قالوا هاتها يا ساقي ومتى ما كان في الكأسِ جرعةَ بؤسٍ قالوا سئمناها. مذاقُ كأسِ السعادة ينتهي بعد شربه ولكنَّ كأسَ الشقاءِ تبقى الثمالةُ فوق الثمالة وتجتمع حرارتها على مر السنين دون أن تُطاق مثل نارِ الخليل. يمشي ذو الثمانين وقد حمل فوق كتفيه كلَّ شقاءِ السنين ولا يذكر من سعادتها سوى الرسم.

تتشابه تضاريسُ الحياةِ وأسفارنَا في الطريق، فلا بد أن تتغيرَ المناظرُ وإلا غلبَ النومُ أجفاننا وقلنَا كفى. ليس العبرة في طولِ الطريقِ أو قصره بل في تجدد المنظر وتغيره وتشكله وجماله. رُبَّ مترفٍ أصابه البرمُ والسأمُ في غناه ولما يمشِ ميلاً ومعدمٍ ظل يسيرُ حتى ينتصفَ الليل.

بعد رحلةِ كل يومٍ وسنةٍ وعقد نخرجُ حافظةً الصورِ من صندوق ما وراء الوعي ونمتحنهَا. نتفرسُ الصورةَ الأولى والثانية إن كانتا تتشابهانِ رفعنا أيدينا عن الصور وقلنا لا حاجة لنا في تفحص ما جنينا وإن جاءت مختلفةً مددنا أيدينا وقلنا نعم هكذا هي الحياة. نحن البشر نرسمُ معالمَ الطريقِ بين جبرِ الرحلةِ وتفويضها. أعطانا الربُّ طريقاً وقال اعرفوا الطريق وأنفسكم وسيروا كما تَشَاءُونَ، أنا أقرر طول الطريق وأحتفظ بعِلمِ متى تحطون متاعكم وتسمعونَ ”صوت النعيّ“  وأرى مناظرَ الطريقِ التي صورتموها.

أيها السائرُ في الطريق: ليس هناك صورةٌ في الحياة  يملؤها الفراغُ واللاجدوى، كلُّ الصور تزيلُ النقاب عن الطريق. إن تَعِبَ ونَحِلَ جسدك فلا تَتَعب روحك. ابق في قيدِ الأحياء طويلاً لك السلامة وتذكر أن أهم رقمٍ في الحياة هو الذي سجلهُ تاجرُ الأعمار في سجل القيد الأبدي:

خُلقَ الناس للبقاء فضلّت

أمّة يحسبونهم للنّفادِ

إنّما يُنقَلون من دار أعمالٍ

إلى دار شِقوة أو رَشَادِ

ضَجعة الموتِ رَقْدَةٌ يستريح الجسمُ

فيها والعيْشُ مثلُ السُّهادِ

يقول علي بن أبي طالب ”ما أسرع الساعات في اليوم وأسرع الأيام في الشهر وأسرع الشهور في السنة وأسرع السنين في العمر“. عُدَّ صورك وأنجز أهدافك. إن حملتك الحياةُ ما لا تستطيع جسدها صورةً وخاطب الوجود والعقلانية والحكمة واملأها سخريةً وتهكّماً ما استطعت وقليلاً من التشاؤم، فلن تكون الحياةُ في ناظريك أشدَّ سواداً منها في عين المعري.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 31 / 3 / 2018م - 11:07 م
كلمات تفتح أفكار وأفكار تفتح آفاق ونحن نطمع بازدياد من هذا العطاء ، كل الشكر لك يا أستاذ .
مستشار أعلى هندسة بترول