آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:38 ص

شهرٌ في عقود

تعطي الحياةُ مدرسةً في كُلِّ الأضدادِ تتجاوز الساعاتِ والأيام التي جاءت فيها وبين هزلِ الأيام وجدها وعقلانيتها وعاطفتها وعسرهَا ويسرها تصنع الأممُ والأجيالُ التاريخَ أو تذوب في ماءه وتختفي. دالةُ التاريخ الموجبة التي لا يصنعها البؤساءُ المعدمونَ أو المترفونَ بل يصنعها كُلُّ من استيقظت فيه روحُ الكمال.

ليس من ذكرى ورديةٍ لصغيرِ صارَ كهلاً بعد عقود ولكن تداول الأيامِ بين الناس هو الناموسُ الحاكم. يأتي شهرُ رمضان المبارك هذا العام في شهرِ أيار مايو قبيل اكتمالِ طوقِ الصيف على مابقي من اعتدالِ درجات الحرارة. لكُلِّ شهرٍ معنى ونكهة ولكن شهر رمضان فيه كل ما ليس في غيره من التزلفِ إلى الرب وتغير نمط الحياة في كل نواحيها بما فيها الأكل والشرب وزينة يوم العيد. كل الأشهر ننساها ولا ننسى شهر رمضان، فيه عزيمةُ الروح تنفي عزيمةَ الجسد.

في عقودٍ قليلةٍ من السنين تغير في شهر رمضان ما لم يتغير في غيره من اقتصادٍ وعادات لم يبق منها سوى الروح التي نصلي أن تتجذر في حقول الأيام والسنين. كان الظامئونَ في شهر رمضان يعيشون شظف العيش مثل بقية الشهور، يعملون ويكدحون أو يبيتونَ خماصَ البطون. أوقاتُ الراحة يضطهدها الحَرُّ في الصيف والبردُ في الشتاء وجهد النساءِ في إعداد ما يأكل البقية وزينة العيد التي يفرح من تزورُ داره.

لا وقت للتألمْ خميرةُ الخبز تصنعها حرارةُ الشمس ولابد للمرأةِ أن تضعها ساعاتٍ تحت الشمسِ قبل خبزها على نارٍ كان الحطب مصدر طاقتها. تحلمُ بالزينةِ يوم العيد وأن يزدانَ جيدها بالذهب ولكن من يملكه! يذهب الرجلُ للبزازِ ويقول له اقطع لي قطعةَ قماش لزوجتي تخيطها إحدى نساء الحي. كانتا قطعتينِ ثنتين واحدةً كُلَّ عيدٍ ومازاد كان علامة الثروة. انقلب العسرُ يسراً واصطفت الملابسُ مثل العبيد تنتظر سيدها أن يقول تعالِ.

لم يكن سيد البيت أسعد من سيدته فلا نوم بعد طلوع النهار. كان الرجالُ يشتغلون بأعمالهم في شهر رمضان مثل بقية الشهور بين أمواج البحر وفلاحة النخيل وما جادت به الأيامُ من عمل. يعود إلى منزله وعليه أن يبل الخيش ويرش الترابَ حتى ينام. مرت قوافلُ الأيام فلا عمل إلا ما قل والكل يطلب الراحة. من يلومُ ساكن الصحراء إن هَجَرَ الهجيرَ واحتمى بما جادت به الأيام من بارد الهواء بعد أن أعطتهُ الارضُ ما في باطنها من ذهب. عَبَّتِ الناسُ الدَّلْوَ من أجاجِ النفط الذي وجدوا فيه ضالتهم، أكلوا وناموا في شهر رمضان. كنزوا من كُلِّ ما يبيع الناسُ والطفل الذي لم تكن لعبته قبل عقود سوى مصباحٌ يشتريه في شهر رمضان يلهو به سويعاتٍ قبل أن ينامَ ويترجلَ في الصباح الباكر لمدرسته صار يمل من كل جديد.

لم يكن كل الناسِ فقراءَ قبل عقود وليس كلهم غني اليوم ولكن تسارعَ المال أشعر الناسَ بأن ما ولى لن يعود. نداءُ الأيام يسمعه العاقلُ قبل أميالٍ ومتى ما سمعه عليه أن يحتفظ بحذائه ورداءهِ القديم وأن يتذكر ألاَّ فضيلةً تحميه من " وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ? وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ".

أعطتنا الأيامُ بعدما منعتنا فلا ننسى أنها قد تحرمنا بعد ما أعطتنا، أغمض جفنكَ وأنظر!

مستشار أعلى هندسة بترول