آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 4:06 م

خروج الغائبين من كلماتنا

محمد الحرز * صحيفة اليوم

ليس على الكلمة أن تصل، وليس عليها أيضا أن تتوقف، الدوران في كل اتجاه هو ديدنها، الدوران لأجل الدوران هو هدفها المنشود. وهي فيما تدور لا تزعج نفسها، إنها تزعج الحياة وكأنها تريد أن تقول: - حين يعلن ضجيجها عن نفسه أمام الحياة - أنا أعيش حياتي داخل الحياة ذاتها، حريتي عيناي اللتان أبصر بهما دربي، ويداي هما المعنى الذي أصنع به جسرا كي لا أقع في نهر الموت وأغرق. لذلك أسمي الغياب هو الصديق الذي لم يذهب كما تظن الحياة، هو هذه الكلمة التي لا تتوقف عن الدوران، هو هذا الضجيج الذي يتحول إلى ما يشبه البئر المملوءة بالماء الزلال، هو هذه الريح التي تحفر اسمها على الصخر وعلى جذوع الأشجار، هو ما لم يفكر فيه الموتُ بمعنى الغياب ولا بلفظه أيضا، هو الكلمة وحسب ولا شيء بعده.

أليس بعد كل ذلك، على الغائبين أن يطمئنوا؟! أليس عليهم فقط أن يجمعوا الأحلام التي تركوها في مناماتهم، وأن يعتنوا بها، ويربوها مثلما الكلمة تربي نفسها في الضفة الأخرى؟! لا يسعهم سوى ذلك، ولن يكون غيره، إذا ما أرادوا أن يقولوا للغياب: هذا هو غيابكِ الذي أبدلنا أسلحته بكنوز من الأحلام المضيئة الوثابة. ربما نسيج الحب تتهتك حباله أحيانا، إذا لم ننتبه إلى المقص الذي يحمله الفقد، ويمعن في التهتك أيضا إذا لم نلتفت إلى ما لم يقله الغائبون في حياتهم أكثر مما قالته صورهم عنهم، حيث المسافة الفاصلة بين الحياة وصورتها هو ما نصدُ به غيابهم عن الغياب ذاته، ما نملأ به سلالنا من ثمار حبهم واشتياقهم. فما نقوله بإيماننا لذكراهم أكثر مما نقوله بعقولنا. هكذا هم الأشخاص الذين يذهبون على غفلة منا، وحين يكتمل الذهاب، نبدأ في استعادته على مهل. وكأننا نستعيد ذكرى صورناها على شريط فيديو، لنتفاجأ بقيمة وأهمية ما صورناه.

الغائبون لم يختاروا غيابهم. لكنهم اختاروا الحضور بملء إرادتهم، حيث إزاء الأحياء هم ملوك لا يسعهم مكان ولا أرض أو ليل ونهار أو فضاء، يحضرون بشروطهم، وحين يلح المحبون عليهم، تراهم يفاجئونهم في حفر الكلام المطموسة بالحنين إليهم، يفاجئونهم حيث الكلام لا يجري على الألسنة، ولا يسقط في القواميس أو أيدي النحاة، بل تراهم من فرط حضورهم يغيب الكلام ويحضر ما ينوب عنه: اليقين. لذا المحبون هم الغائبون بلا تمايز أو انفصال، حتى الحياة هنا لا تصبح هي المرجحة بينهم، بل تصبح إلى الحياد أقرب، مرحلة اليقين هذه، تجعل الحياة هي الغياب ذاته بينما الحضور هو ما نراه من شخص المحب. لكنه في حقيقة الأمر هو الغائب على هيئة حضور. من النادر أن يحدث هذا الاتصال في هذه الأيام مع من نحبهم بهذه الكيفية، فالضجيج يملأ العالم، بحيث لا يدع للغائبين مجرد التفكير كي يحضروا بإرادتهم بيننا.