آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

العمر سياحة والحياة سفر

محمد سليس

ما إن تغلق المدارس أبوابها معلنةً عّن بدء العطلة الصيفية، حتى تجتمع الأسرة في مباحثات حول دول العالم وأيها أصلح للسفر وقضاء العطلة فيها. فهنالك - في المباحثات - تتضارب الآراء وتتعارض بين المشتاق والمتلهف لزيارة الأماكن المقدسة والمشاهد الشريفة، وبين التواق للوصول لأقطاب العالم إما لرؤية الطبيعة الخلابة، وإما لحضارة سادت، وإما لمدينة تواكب العصر وهلم جرا... وتزامناً مع الرحيل تبدأ أسئلة الناس إلى أين تشدون الرحال في هذا العام؟ إن كان جوابك بغير المراقد الطاهرة؛ تغير وجه السائل، وتقرأ في قسمات وجهه بأنه صدّر حكماً مطلقاً عليك، من قبيل: لماذا تهدر المال في غير الزيارة للأماكن الطاهرة؟ أو ليس حرياً بالمال أن يصرف في طاعة الله؟ وكذلك الحال عندما تعود من سفرك - ما يصطلح عليه بالسياحة - فعندما يستقبلك شخص ويعلم من أين أتيت يقول ساخراً: هل نقول تقبل الله؟!

نعم، قلّ: تقبل الله!

أولا - الدين لم يمنع، ولم يكّره في السياحة، بل على العكس تماماً حبب السفر والسياحة، أو لم يسمى نبي الله عيسى بالمسيح؟

ثانياً، القربى لله يكون في كلّ شيء؛ فالسفر لإي مكان تحت ملك الله بقصد القربى الخالصة يوجب قبول العمل كما قال أمير المؤمنين - -: ”ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه“

أيها الحبيب، وأيتها العزيزة، الإنسان في واقع الأمر هو مسافر باحثُ عن الصراط الذي يقوده إلى مبدئه وذلك الصراط له عدة سُبل لا سبيل واحد حتى يلتزم بالسبيل الذي سلكه غيره، إذا كانت السُبل روافداً سليمةً تَصّب في الصراط الحق فلا مانع من تعددها ﴿وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. يذكر الدكتور التيجاني السماوي في مقدمة كتابه فسيروا في الأرض فانظروا: ”أمر الله عباده بالمسير؛ لينظروا عاقبة الذين من قبلهم، وليتعرفوا على بعضهم، كما أمرهم بالنفور ليتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا، ففي الأسفار رحمة وشفاء ومعرفة وعلم، أو ليست الحياة كلها سفر إلى الفناء ثم انتقال إلى الحياة الأبدية؟ إن الله سبحانه يأمرنا أن لا ننهي سفرتنا إلا بالاستبصار إلى الحق“.

لا مانع من أن تعبر المحيطات بُغية السياحة، لكن المهم هو أن تُفّعل مستقبلات الحواس في أسفارك. السمع والبصر والعقل فلتكن حاضرة على كل حال؛ فهنَّ مكونات الفكر الأساسية، وبما أنها جوانح لله فلابد من استعمالها في طاعة الله فإن ما تحمله الجانحة تخرجه الجارحة فتكون الأفعال مرآة للانفعالات، وبمعنى آخر تصرفات الشخص تعبر عن معتقداته؛ فلذلك السفرُ لا بد أن يترك أثره الفكري والمعرفي عليك وهذا الفكر - يا حبَّذا الفكر الإيجابي النافع - لا بد من أن تزرعه وتستثمره في مجتمعك وبلدك؛ لكي تتلاقح الثقافات، ولا أقلّ ليكن سفرك لسلامة قلبك حال رجوعك إلى خالقك ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «89» الشعراء. إذاً ثمرة الحث على السفر هي القلب السليم.

المعلوم أن القرآن الكريم يهتم بهداية الإنسان من أصل الفرد إلى كل المجتمع. كرر الله - سبحانه وتعالى - في القرآن عبارة المسير في الأرض مع النظر، وقد أمر نبيه الخاتم - صلى الله عليه وآله - بأن يوصي بها أمته، وقد تكرر ذلك الذكر «16» مرة وأنقل منها ثلاثة شواهد:

1 - ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين «137» آل عمران

2 - ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «46» الحج

3 - ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ «9» الروم

يذكر الشيخ صاحب الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل في ذيل الآية «137» من آل عمران: ”يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق؛ لأن الارتباط بين هذين الزمانين يكشف عن مسؤولية الأجيال اللاحقة وواجباتها. والآية تكشف أن لله في الأمم سَنَناً لا تختص بهم، بل هي سَنَن عامة للحياة تجري على السابقين كما تجري على الحاضرين سواء بسواء“. وفي واقع الأمر ما مرت به الأمم السابقة والعصور الماضية أو حتى في عصرنا هذا من المجتمعات التي سبقتنا في النهوض وما تسمى بدول العالم الأول أو الدول المتقدمة، هي مرآة تحدث عن مستقبلنا؛ ولهذا السبب يأمرنا القرآن الكريم إذا سرنا في الأرض أن نعمل الحواس فإن العمى عمى القلب «العقل» وليس عمى البصر.

قد ندرس في غرف الدراسة عن تاريخ شعوب أو نظريات علمية عمل بها أقوام، أو نطالع في بُطُون الكتب عن سحر الحضارات، أو نشاهد برنامجا وثائقيا عن التطور الحاصل في دولة ما، لكن هذا لا يساوي في المقدار لحظة تأمل تقفها في حال سفرك للبلدان. وفي هذا يقول الشاعر:

ليس بإنسانٍ ولا عاقلٍ مَنّ لا يعي التاريخ في صدره

ومن درى أخبار من قبله أضاف أعماراً إلى عمره

حقيقة الأمر أن العالم ضخم والكون واسع وأنت فيه على حالتين: إمّا أن تَسير، أو تُسَّير. بمعنى إذا فكرت في غاية وجودك في هذا العالم، وسِرتَ لتحقيقها فإذاً أنت تسير. وأما إذا كنت تائهاً لا تدري فإنك مٌسَّير بقوى غيرك. يقول إليا أبو ماضي:

جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت

ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت

وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري!

وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟

هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور

أأنا السّائر في الدّرب أم الدّرب يسير

أم كلاّنا واقف والدّهر يجري؟

لست أدري!

قد سألت البحر يوما هل أنا يا بحر منكا؟

هل صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا؟

أم ترى ما زعموا زورا وبهتانا وإفكا؟

ضحكت أمواجه مني وقالت:

لست أدري!

فيا أيها الحبيب، ويا أيتها العزيزة، لايكونن سعيك بلا وعي ولا ادراك وتأمل بديع صنع الخالق، وتظلل بظل الأشجار التي تذكرك بدانية الظلال وذليلة القٌطوف، وانظر في البحار والجبال الرواسي. لا تكن سفرتك كملابسك لا تتأثر ولا تنفعل بشيء وليظهر أثر السياحة في تعاملك الاجتماعي الحسن.