آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

فراشاتُ النار

المهندس هلال حسن الوحيد *

أحببته طفلاً ويافعاً وشيخاً. أحببته في كُلِّ وقتٍ، أبحثُ عنه إن غابَ ويصيبني الغَمُّ إن فارقني. ليس صديقَ الصبا، ليس كتاباً وليس حبيباً من البشر، إنه المال! أفنيتُ عمري في طلبه والبحث عنه وعندما اصطادُ غزلانه الشاردةَ أنصبُ المزيدَ من الفخاخِ لاصطيادِ الباقي. يأتي عندما لا أستدعيه ويهربُ مني إن أحسَّ بثقل خطايَ أجري وراءهُ لا أستكين إلا حينَ أملأ جرتي منه.

المالُ ذاك الصديقُ الذي يكرمك متى ما ملكته ويضعكَ في مجالسِ الأنسِ مع من لم يكن يوماً يدور في خلدك الجلوس معهم. لا تصدق من قال لك أن المالَ لا يلبسك لباسَ العز! يعطيك الصوتَ جهورياً إن لم تملك صوتاً ويعطيك الوسامةَ إن كنت ذميماً ويفتح لك كل بابٍ مغلق ويجعلك عبقرياً إن كنت أخرق. هل رأيت إنساناً لم يغرهِ المالُ يوماً سوى الأنبياء وقلة من البشر؟ ينام الفقيرُ في ظلامِ الليل جائعاً ويسهر الغنيُ في عواصمِ العالم لا يشبع من ملذاتها. أوراقٌ خضراءَ وزرقاءَ وحمراءَ وألوانٌ زاهيةٌ أخرى تجذبنا نحوها مثل الفراشاتِ نحوَ الضوء.

يظن الفقير أن الناسَ يعطفونَ عليه لفقره ويفسحونَ له المكانَ لكنهم في أنفسهم يبتعدون عنه ويُخَدِّرْ نفسه أن الفقرَ ليس مذمةً وأن القناعةَ كنزٌ لا يفنى. هل يعترف الفقراءُ بفضائلِ الفقرِ متى ما حط المالُ في فناءِ دارهم؟ ليس كل فقيرٍ يدخل الجنة، ربما اجتمع على الفقيرِ الفقرُ والنار وليس كُلُّ غنيٍ يتحالفُ مع الذئابِ ويدخله الربُّ النار، كم من مالٍ شق لصاحبهِ طريقَ الجنة. هو ذاكَ الساحرُ الذي ينفثُ النارَ الحارقةَ من البوقِ ويخرج الوردةَ الجميلةَ من جيبه.

لا تخجل، ابحث عن المالِ واطلبه ومتى ما جاءَ نحوك خذ لك منه ما تشتهي ولعيالك ما يحتاجون ولا تنسى أن تشتريَ من سوقِِ الفضائلِ ما تستطيع. يذكر التاريخُ حاتمَ طي في إسمه الأول وينسى كثيراً من الأغنياءِ والجبابرة في كُلِّ أسماءهم. سوقُ التوافه فيها جلبةٌ وصخبٌ وباعةٌ ينادونك أن تشتريَ منهم. يمكنك أن تشتريَ البضاعةَ الزائفةَ متى ما تاقت نفسك لها لكن عليك ألا تنسى أن الفضائلَ أسمى.

ولادةُ المالِ في موته، كُلُّ الأشياء تنفد وتنضب عندما نستهلكها ونفنيهَا إلا المال يعاكسُ كُلَّ الحقائق. عندما نخزنه يموت وعندما نشتري به الفضائلَ يحيى ويكثر. ذاك لأنه حينَ تطفح الدنيا بالحاجةِ يغزلُ الربُّ الشبكةَ التي تصطاد المالَ ويتركنا نخرقها متى ما أرادَ أن يحرمنا. يظل المالُ أوراقاً ملونةً نفتخر بها ولا تنفع إن كانَ في الدنيا مضطهدينَ وجياع لا تضحك لهم الأيامُ في لقمةٍ أو كساءٍ أو سقف.

قطعتْ المدنيةُ الحديثةُ أوصالَ الأرضِ واغلقتها بسواترَ لا يستطيع المحسنُ أن يرميَ كسرةَ خبزٍ فوقها وصارَ من عنده أوراقٌ ملونةٌ يردد المثلَ الذي قالته أمي "إذا أنا سلمت وناقتي لا يهمني رفاقتي".  يأتي يومٌ تنكسر قشرةُ الأرضِ وتلقي الجائعَ في جنبةِ الغنيِ والغنيَّ في جنبةِ الجائع وتقول له: الآن أنت هنا ما حيلتك؟ دوامُ الحالِ من المحال!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
20 / 7 / 2018م - 5:33 م
مقدمة بليغة في الوصف جميلة في المعنى وواقعية جداً ، لطالما كان أمر تلك الأوراق عجيب وماتفعله بالنفس إن زكتها أفلحت وإن دستها خابت ، وكان قلمك أعجب في في إطراء وذم تلك الأوراق .
سخر الله لكم الأموال في الخيرات وطريق الجنان .. أعجبني المقال تحياتي .
مستشار أعلى هندسة بترول