آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

التحفة الرضوية

جاء في الوصية الذهبية للإمام الرضا للسيد عبد العظيم الحسني: «يا عبد العظيم أبلغ عني أوليائي السلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة فإن ذلك قربة إليَّ، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط ولياً من أوليائي دعوت الله ليعذبه في الدنيا أشد العذاب وكان في الآخرة من الخاسرين» «بحار الأنوار ج 71 ص 232».

هذه البادرة التوجيهية من الإمام الرضا لصاحبه وموضع الثقة عنده السيد عبد العظيم الحسني «رض» تمثل خلاصة وعصارة تنويرية وتوعوية بأهم ما يواجه المؤمن من مخاطر وعقبات، تبعده عن رحمة الله عز وجل وتسقطه في وحل الرذيلة والاستجابة العمياء للأهواء وتسويلات الشيطان الرجيم وخطواته التضليلية، ومن جهة أخرى فإن هناك من الفضائل الأخلاقية والاجتماعية ما يرتقي بها درجات التألق والكمال والسمو الروحي في دوحة القرب من الله تعالى ومدرسة الحكمة والمنطق في الأفعال قبل الأقوال، تلك النفحات التربوية يشير لها الإمام الرضا في لوحة إرشادية لمن اقتدى بنهج الأتقياء.

فهذه الوصية المسلكية لم تكن نتيجة إجابة لسؤال واسترشاد من أحد أصحابه وطالبي المعارف الحقة، بل هي قراءة لواقع الناس وتقديم زاد لهم يبصرهم بأهم المخاطر التي تواجههم في طريق الطاعة والفضيلة والاستقامة والتألق الأخلاقي، وحثهم على معالي الأمور ومكارم الأخلاق وتجسيدها في سلوكهم.

لقد عرف الإمام الرضا بعالم آل محمد، وبحر معارفه الزاخر مما شهد به العلماء من مختلف المدارس والمذاهب وأقر له بذلك حتى الأعداء، بل وتذكر المصادر التاريخية من الوثائق والشهادات من أعداء الإمام والحاقدين عليه بأن علمه لا يجارى، وكان بذلك موئل وكهف عشاق المعرفة الذين حضروا درسه ومجلسه العامر بالعلوم، وتلقى منه تلامذته ما يشفي شغفهم ونهمهم إجابة على أسئلتهم.

الإمام الرضا لم يكن بعيدا عن أوساط الناس، بل عنده كاشفية تتضح من خلالها أحوال الناس وحاجاتهم الروحية والاجتماعية والمادية ويقدم لهم ما يسعفهم، وهذه الوصية الذهبية نموذج ودستور يحمل ما بين طياته توجيهات تشمل أوجه علاقة المؤمن بربه وإخوانه المؤمنين، فيشير للآفة التي تقطع حبل الوصال مع ربه ألا وهي أحابيل مكر الشيطان وسبل إغوائه المتعددة، فإن النجاة من خداعه يكمن في الحذر وتيقظ البصيرة لما تهتف به الشهوات وأهواء النفس الأمارة بالسوء، ولا منجى من ذلك إلا بمحاسبة النفس ومراقبة تصرفاته، فمن خلال محاسبة نفسه والبحث عن أخطائه والسلوكيات المعيبة التي تصدر منه، يمكنه أن يقف عليها وعلى الدوافع والمسببات التي تحركه تجاهها، وبلا شك فإن معرفة النتائج والعواقب الوخيمة المترتبة عليها هو بداية المسير، فعندما يضعها نصب عيني بصيرته فإن ضميره اليقظ والمزود بالخوف من الله تعالى وعقابه يحذره من الوقوع في حبائلها.

وهذه الهمة العالية في التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ليست بالعملية السهلة، التي تواجهه في خضمها ألوان الابتلاء والعقبات من أهواء ووسوسة الشيطان، ولكن ما يدفعه نحو طريق الحق والهدى هو معرفته اليقينية بصوابية مسيرة تهذيب النفس، فيتحمل في سبيل ذلك المشاق ويتحلى بصفة الصبر على الطاعات وتجنب المعاصي ليحظى بالقرب من مولاه ورضاه، فتلك الصورة القبيحة لاقتراف السيئات إذ يراها ظلما لنفسه ونكرانا لآلاء خالقه، تبقى ماثلة أمام عينيه، مما يعصمه ويصرفه عن المعصية، ويعينه على التزام مسلك الاستقامة والورع.

ومن تلك القيم التربوية التي يسعى الإمام الرضا لترسيخها في الأذهان هو الحذر مما يقطع النسيج الاجتماعي وحبل الود والتفاهم والتعاون بين الناس، وذلك بالتحذير من إحدى خطوات الشيطان التي تبذر الخلاف والمشاحنات بين الناس، وهذه المعالجة تتم بالتمسك بضبط النفس والهدوء النفسي والتسامح أمام الإشكالات وسوء الفهم والخلافات البسيطة التي تحدث بين أفراد المجتمع، إذ أنها تشكل النفس البغيض للكراهيات والوصول إلى القطيعة، وتأتي بويلات تفكك عرى التكاتف والتعاون بين الناس، فإن الخلافات تسبب هدرا كبيرا لطاقات الأفراد والتي يبذلونها حينئذ في تغذية الخلافات وتسعيرها وتسقيط الآخر ومهاجمته بكل عنف.