آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 7:35 م

حركية الوعي عند الإمام الصادق (ع)

في بدايات حركة بني العباس لتصفية بقايا السلطة الأموية، والعمل على تشييد وترسية أسس حكمهم وبسطها على كامل رقعة المدن، لم يشأ هؤلاء أن تتشتت جهودهم المنصبة على سحق كل ما يمت بصلة للحكم الأموي، وذلك بالدخول في مواجهات وجبهات متعددة مع كل خصومهم مثل العلويين، إذ رأوا حينها تحييد وتهدئة جبهة العداء معهم وتجنب أي مناوشات أو قتال معهم من خلال خطة شيطانية تخفي أنيابهم وحرابهم وأهدافهم الحقيقية، فطرحوا على سبيل الخداع والتعمية واستدرار العواطف شعار «الرضا من آل محمد»، حيث ادعوا أن تحركهم العسكري ما كان بهدف انتزاع السلطة لهم، بل همهم الأوحد هو القضاء على فلول الحكم الأموي والقضاء على أي وجود لهم؛ ليسلموا الأمر بعد ذلك لمن هم الأحق بالخلافة وهم آل رسول الله ﷺ، فتعطى للأعلم من أهل البيت.

وهكذا يضمن العباسيون وأد أي توتر أو قتال مع العلويين يضعف قواهم وينهكها بسبب تعدد الجبهات، بل ويضمن لهم انصهار وانضمام محبي أهل البيت في معاركهم الطاحنة، فلا بأس ولا حرج عندهم من جعل الناس وقودا وحطبا لنار السلطة التي يطلبونها ويلهثون خلف بريقها!!

شهوة التسلط والحكم تحرك من يطلبونها نحو استخدام كل الوسائل والطرق التي تضمن لهم الحصول على ما يتمنونه، ومع غياب كل القيم والرادع الذي يكفهم عن الظلم والاستبداد، لا يتورعون عن وضع الخطط الشيطانية لإدارة حكمهم مع تغليفها بما يدغدغ مشاعر الناس أو يموه عليهم الهدف المختبئ خلف الأكمة، وحتى تلك المواقف العدوانية يجعلون لها من التبريرات والعناوين البراقة ما يخفي الهدف الحقيقي لخطاهم، ومن جهة أخرى يكسبهم رضا وتأييد الناس وتعاونهم لإنجاحها.

ولكنهم ما إن يحصلون على مبتغاهم ويسجلون تحقيقا لمبتغاهم، حتى تتكشف تلك النوايا الخبيثة المبيتة ولا يهتمون حينها لردة فعل الناس، إذ يضربون عندئذ بيد من حديد كل من يخالفهم أو لا يوافقهم على تصرفاتهم الطائشة، فقد حازوا ما أرادوا ولا يبالون حينها من تغيير لهجة خطابهم نحو العنف والتهديد بالبطش والتنكيل بكل من يعارضهم.

هذا الأسلوب الماكر والخديعة المبطنة والمهجة الناعمة التي استخدمها بنو العباس لاستمالة العلويين - وعلى رأسهم سيدهم الإمام الصادق - لم يكن لينطلي على من يمتلك وعيا وفكرا ثاقبا وبصيرة نافذة تكشف النوايا المخبأة والمبيتة لعشاق السلطة ومصاصي الدماء، وهذا ما يدل عليه موقف الإمام الصادق من العرض الذهبي - لمبعوث بني العباس - عارضا المشاركة على الإمام وطالبا التأييد لسفك الدماء في مقابل تسليم السلطة للعلويين في نهاية المطاف، وسلمه رسالة ممهورة بتوقيع الغدر والخيانة والوعود الزائفة، فما كان من الإمام الصادق إلا أن أحرق تلك الرسالة أمام مبعوثهم وقال له هذا ردي فأبلغه لمن أرسلك، وهكذا خابت توسلاتهم وآمالهم الخائبة واصطدمت أحلامهم بسد وحصن منيع ألا وهو حركية الوعي والتفكير الاستشرافي من الإمام، والذي لا ينطلي عليه مثل هذه الألاعيب من الساسة الفاسدين الذين يحاولون بكل السبل الوصول إلى مبتغياتهم باستدرار عواطف الناس.

فالأمة في نظر الإمام الصادق في ذلك الوقت بحاجة ماسة إلى تشييد أساسها العلمي وبنائها الثقافي الحضاري، والذي يبني الشخصية الرسالية بالمعارف الدينية والمنطقية والفكرية، فهذا البناء المعرفي يبقى في أثره ونتائجه عبر الأجيال المتلاحقة.