آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

عين أم عريش حكايات وذكريات

عباس سالم

في ”عين أم عريش“ لنا حكايات وذكريات جميلة في أيام الطفولة والصبا يختزنها العقل وتظل في الذاكرة، ونحُنّ لها عندما كبرنا وعشنا معترك الحياة بحلوها ومرها، ونسردها بالآهات والحسرات عندما نلتقي مع من عاش حلاوة ذلك البستان من الأصدقاء في الزمن الجميل.

”عين أم عريش“ هو الاسم المعروف لنخل أبو عائشة الواقع في جزيرة تاروت، وحدوده تبدأ من جنوب نخل الفسيل، ويمتد إلى أطراف مدرسة عين أم عريشتاروت المتوسطة سابقاً والثانوية حالياً، وغربه نخل الصدري، وشرقه نخل الخضاري، وهو أحد البساتين الكبيرة والجميلة التي كانت تتميز بها جزيرة تاروت، ومصدر رئيسي لمختلف أنواع التمور إلى الدول المجاورة في خليجنا العربي.

المالك لنخل بستان ”عين أم عريش“ هو الحاج ”عبدالله أبو عايشة“ من أهالي دارين، والمزارعين الذين تعاقبوا على العمل في ذلك البستان من أبناء ديرتي يرحمهم الله تعالى هم حسين البصري ”أبو عبد الرحيم البصري“ وأخوه عبدالله البصري، ومكي شوكان وإخوانه، وحسن بن جواد، والحاج كاظم حبيل ”أبو جاسم“ وغيرهم.

أخذتني الذكريات إلى أيام الطفولة والصبا في الزمن الجميل، وأنا في طريقي إلى أحد البساتين الجميلة في جزيرة تاروت إلى بستان عريق اسمه ”عين أم عريش“، والتي لا تغيب عن ذاكرتي وذاكرة زملاء الطفولة والصبا الذين شاهدوا ذلك الجمال فيها، ومشوا على أرضها وبين أشجارها ونخيلها الباسقات واستمتعوا بالسباحة في عيونها الفوارة، وأكلوا من ثمار ما تنتجه أرضها الطيبة من الرطب، والموز، واللوز، والتين، والرمان وغيرها.

وفي الطريق إلى ذلك البستان زادت دقات قلبي وكأن أقداري أحبت تنبيهي إلى ما كان ينتظرني فيه! وعندما وصلت أسدلت ستائر الأجفان على عيني، وأمسكت بجدار صغير عند مدخل البستان والذي لازالت آثاره موجودة إلى اليوم، لكنه حزين متعرٍ من أثر جور الزمان وأهله على ما كان موجوداً بين أسواره! وفي ذلك الزمان كان الوصول إلى عين أم عريش متعة، حيث نتزاحم على اللعب بين ظلال أشجارها، وفي عيونها الفوارة التي تروي بمائها العذب نخلها وأشجار اللوز والتين والوردِ والريحان.

وما إن دخلت بعد الجدار ذهبت إلى العين لألقي عليها التحية والسلام، فوجدتها مغطاة بمخلفات المباني التي استوطنت المكان وقامت باحتلالها! ونظرت إلى ذلك البستان فلم أرَ نخلة واحدة فيه! وبينما أنا واقف سألت ذاكرتي: بأن في هذا المكان كان الحمام ينوح فوق ذرى النخل ويصيح «يا فاته يا بتي» فأين هي الآن؟ وهل هذا هو المكان التي كانت الطيور تغرد مجتمعة فوق أغصان الشجر في كل صباح ومساء؟

وبينما أنا واقف أعيد الذكريات لهذا البستان، قررت بأن أدخل بين الشجيرات، وأن استمتع بزقزقة العصافير الموجودة فوق ما تبقى من شجيرات كما هو حالي في الزمن الجميل، وجلست أنصت وفوجئت بأن العصافير هنا ”تزعق“ و”تصرخ“ كأنها تطلب النجدة فعرفت أنها تريد ماء! وصارت زقزقتها العدوانية شبيهة بصرخة إنسان تاه في وسط صحراء من دون ماء! فسألت نفسي: ترى هل تتكيف العصافير مثلنا مع المناخ المحيط بها ويتبدل خطابها؟ فجلست على الأرض أتنفس أسفاً وحزناً على هذا البستان الجميل الذي جرفته اليوم سماسرة العقار دون رحمة!

وأخيراً قررت الرجوع إلى بيتي فاستوقفني صديق لي قائلاً: هل تفكر في العودة إلى بقايا هذا البستان؟ فأجبته بل أخطط للعودة إليه كل يوم، قبل أن تغطيه الخرسانات الإسمنتية، فقد تمحي آثار الطفولة والصبا فيه لكنها لن تمحي الذكريات الجميلة من الذاكرة! سألني لماذا يا مجنون؟ قلت له إنه ”الحب“ وأنا عاشق لبساتين النخيل في بلدتي وهذا واحد منها ضاع!!! مثل باقي البساتين التي كانت تحيط بجزيرة تاروت! ولا شفاء لي والحب يجهل المنطق العقلاني، ولعلّ كل عاشق مجنون ما يعشق!

آه آه، تلهفت على منظر تراقص النجوم في قبة السماء، وخرير الساقية التي تروي الأشجار بالماء، وتمايل شجر اللوز العملاق، ورائحة الأرض المبتلة بعطر الورد والريحان، والقلب يعتصر حزناً وأسفاً على تدمير البساتين في جزيرة تاروت وباقي مدن القطيف، ولم أتوقع بأن مخطط التغيير الجغرافي فيها يتم بهذه الطريقة، حيث تراجع المشروع الجمالي للجزيرة، وحلّ مكانه المشروع التدميري للكثير من الموارد الطبيعية! وعلى رأسها تدمير نبع الماء من عين العودة وحمام تاروت، وانهيار كل الأراضي الزراعية بعدهما، وتحويل الجزيرة إلى رقعة أرض صحراوية خالية من البساتين والمزارع وأشجار النخيل وغيرها.