آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

”كُلنا...“

المهندس أمير الصالح *

”كلنا محمد الدرة“... ”كلنا عبد الجليل“... ”كلنا سمير“... هي صرخات يهتف بها المفجعون برحيل هذا او ذاك الشخص الذي يشيعونه الى مثواه الاخير حيثما فجع أحبائه برحيله ويصادف ان يكون اسمه محمد الدرة تارة او عبد الجليل او سمير تارة اخرى. سيل العاطفة الجارف يومذاك يجعل الكثير يردد الهتاف المسموع ندبا وحزنا لرحيل تلكم الاشخاص دونما استنطاق تجربة الراحل المودع الى قبره او العمل على تأصيل القيم التي زرعها الراحل «شهيدا كان او عالما دينيا مخلصا او باحثا مثابرا او ناشط اجتماعيا فاعلا، مثلا» في حقل المجتمع او الوطن او الانسانية.

قد تكون بعض الاجساد المشيعة نحو مثواها الاخير صغيرة العمر وقليلة الارث العلمي والادبي الا انها اعطت كل ماتملك وفارقت الحياة بعد ان أفرغت اغلى ماتملك «الروح» بعنوان التضحية من اجل الارض او العرض او الحق.

وقد تكون بعض جثامين لاشخاص كبار سنا تزف الى مثواها الاخير مصحوبة بكم كبير من المشيعين المجهشين بالبكاء لرحيل اصحاب الجثامين بعد ان غرس اولئك الراحلون مفاهيم جميلة وأعطوا نماذج صادقة في ميادين انسانية وسلوكية ودينية وعملية وعلمية وادبية راقية وناضجة او بذلوا جهدا كبيرا وسعيا صادقا منها في التصحيح الفكري او التآلف الاجتماعي او اعادة توجيه البوصله الوطنية او الاجتماعية نحو الاهداف والقيم العالية السلمية السامية.

لعل الجميع يتفق بان ندب او بكاء او رثاء رحيل شخص ما ليس الا بكاء لرحيل حامل مشعل امل لمنظومة شجرة قيم برهنت الايام على صدقه وإخلاصة لبلوغ مرامه في زرع تلكم الشجرة من القيم الانسانية الصحيحة في داخل مجتمعه والتطلع منه بقطف ثمار تلكم الشجرة من القيم من جميع ابناء مجتمعه ووطنه الا ان الموت باغته فرحل دونما استأذان.

ولعل الجميع يسمع رثاءاٌ سردت فيه صفات تسبغ صدقا او تجملا على بعض الراحلين في ايام العزاء وتكون معظم الصفات في اطر النبل الانساني وقيم الاخلاص والتضحية والحب وتعميق المشتركات الانسانية وهي صفات محببة لكل النفوس من جميع الاطياف والتيارات. الا ان العبرة في سماع تلكم الرثائيات، في نظري، هي في زرع ذات القيم التي نبكي او بكى البعض لرحيل اصحابها في انفسنا لنكون نحن ايضا مشاعل أمل لاستمرار تلكم القيم الصادقة. ولذا، وهذا من وجهة نظري، اقامة العزاء لشخص مميز بعطاءه ومساهماته وذو وقع نفسي كبير في ابناء مجتمعه هو نصف المشوار في تخليده او استنساخه كتجربة، حيث يكون مجلس العزاء تدارس لمنظومة القيم واليات نجاح المعزى برحيله؛ والنصف الاخر للمشوار ان كان ابناء المجتمع صادقين في الاحتفاء بتوديع روح المتوفى هو تفعيل تلكم القيم لتجذيرها بين ابناء الاجيال وليس الاكتفاء ب البكاء على القيم وعلى حاملها الراحل.

وهذه المقاربة في تدارس منظومة القيم لرموز الاجتماعية والوطنية والدينية والعلمية في الرثائيات واطلاق حملات تجذير لتطبيق تلكم القيم وتأصيلها بادوات الزمان المتناسبة يكون مدخل لمعالجة التقوقع او معالجة الانزواء ومعالجة خلق الاسطورة في الاذهان لاشخاص والقفز على محطات الندب والبكائيات المستمرة.

كانت هذه الخاطرة وردت بمناسبة رحيل شخصيات ذات وزن علمي وادبي وانساني في مسقط رأسي، واحة الاحساء، حيث افجع الموت قلوبنا بتصرم جيل من اهل العطاء ورحم الله موتانا وموتاكم وموتى جميع المسلمين ورحم الله من قرأ الفاتحة واهدى ثوابها لموتاه وموتانا.