آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

وادي السباع

يدركُ البشرُ أن الموتَ يقينٌ في كُلِّ حركاتهم ولكنهم ينسونهُ في ذاتِ الوقت وإن كانَ رسمهُ محفوراً في طاسةِ رؤوسهم. لو هابَ الناسُ الموتَ ما ساروا خطوةً واحدة للأمام، من يحملهُ الماءُ ومن يحمله الرياحُ ومن يمشي على الأرضِ لو لم يكن عندهُ هامشُ نجاةٍ لزمَ بيته ومن صَدَّقَ أن المقصلةَ سوفَ تقطع رأسهُ غداً ماتَ خوفاً اليوم. كلنا لو وجدنا شقاً في الأرضِ نختبئ فيه من داعي الموتِ لفعلنا ولكن كيف بمن في صفحاتِ التاريخِ وفي الحاضر من يرفع رأسهُ ويقول للموتِ ها أنا ذا، أَعْلمُ سَفَرَ الحقِّ ولا أهابه؟  لا بدَّ أن ما يطلب هؤلاءِ الناس لا تسعهُ الدنيا ومن كانت مهمته مَهراً لها الموتُ وخاف منهُ لن تعطيهُ الحياةُ الخلودَ ولن يذكرهُ التاريخ. غَلَبَ الرجالُ في الصراعاتِ وحملِ السلاحِ ولكن لم يختصوا بيقينِ الموتِ والسخريةِ من السيف.

دعا مصعبُ بن الزبير في مخازي التاريخِ البشري بامرأتي المختار، أمّ ثابت ابنة سمرة بن جندب، وعمرة بنت النعمان بن بشير إلى البراءةِ من المختار، فأمّا أمُّ ثابت فإنها تبرأت منه، وأبت عمرةُ أن تتبرأ منه. أمر بها مصعب وأُخرجت إلى الجبانةِ وضُربت عنقها فقال بعضُ الشعراء في قتلها:

إن من أعجبِ العجائبِ عندي

قتلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عطبولِ

قتلوهَا بغيرِ ذنبٍ سفاهاً

إن لله درها من قتيلِ‏

كُتب القتلُ والقتالُ علينا

وعلى المحصناتِ جَرُّ الذيولِ

لم يبكِ الشعراءُ ولم يكتب التاريخُ اسمَ ابنة سمرة ولكنهم بكوا وسطروا اسم عمرة بنت النعمان. تُسرج الدنيا في كُلِّ يومٍ خيولاً وتحدَّ سيوفاً منها ما هو ساطعُ الوضوحِ والمعرفة في الحقِّ ومنها ما هو ساطع الوضوحِ في الباطلِ ومنها ما يحتاج إلى فحصه وكلها تأكلُ رجالاً يذكر التاريخُ بعضهم على صفحاتِ العز ويسطر أسماءَ الكثيرِ في صفحاتِ المخازي والعار.

لا يختلف الناسُ أن عدداً قليلاً من الرجالِ والنساءِ والصغار اجتمعوا في يومٍ واحدٍ سنةَ 61 هجرية وقالوا للسيفِ لا نخشاكَ هاتِ ما عندك، قُتلوا ولكنهم قبل أن يُقتلوا زرعوا الموت بين قاتليهم وزرعوا الحياةَ للبشريةِ كلها. من يقف على تَلِّ الحيادِ ويتفحص خفايا المعركةِ يجد أن الحسينَ وُلد في ذلك اليوم ومات قاتلوه.

يحتاج من أرادَ النصرَ أن يكون لديه الرجال والسيوف واليقين في القائد وأين سوف تأخذه الدماء المنبعثة. لم يتمكن الحسين من حشد العددِ من الرجال والسيوف ولكنه حصل على قلةٍ عندهم من الرؤيةِ ما كفا أن يحصدوا النصرَ الروحي والأخلاقي في المعركة. كلنا في غابةِ الدنيا نعلمُ أنَّ يوماً ما يكون آخرَ تلكَ الأيام لكنَّ الكثيرَ منا يجزع أن يكون موته في وادي السباع مهما يكن السبب وينكص عند النزالِ سوى من عرفَ الطريقَ إلى الخلود.

مستشار أعلى هندسة بترول