آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 5:37 م

العقلُ ومحكمةُ الخيال

تغذي الفوالقُ الكبيرةُ النابعة من عُمقِ الشعورِ الإنساني الفنَّ والشعرَ والنثرَ والعرضَ المسرحي والتاريخَ بالخيالِ الجامحِ والغض. في كل حدثٍ في الإنسانية وما يحملهُ من خيباتٍ وهزائمَ وانتصاراتٍ يتحرك الخيالُ في وصفِ الأحداثِ التي قد لا تغير الواقعة الأصلية وناتجهَا لكنه يستعرض ويضيف وينقص من الأحداثِ والقصصِ الجانبية التي تستهدف العاطفةَ والدمعَ والفرحَ والزهو.

في الجنبةِ الأخرى يأتي العقلُ والعقلاءُ ويضعونَ الخيالَ والفنَّ في مشرحةِ الحقيقةِ حتى يستخلصواْ وقوعَ الحدثِ والقصة من عدمه. هم لا يضيفونَ سوى اجتثاثِ الفنِّ والخيال وكتابة التاريخ بلغةٍ غير جامدة. من يُلزم الشاعرَ بقاعدةِ تدوينِ التاريخ في هل حدثَ أم لم يحدث؟ ما يفعلونَ ليس سوى محاكمةِ البدوي الذي يتغنى بالخمرِ والكَرْم في شِعرهِ وهو لم يرَ سوى الصحراءَ والسراب. هم من يقولُ للشاعرِ لا تذكر القمرَ والنجمَ في كلماتك فأنتَ لم تكن هناك. لولا الخيال لم يوجد الخنساء ولم يأتم الهداةُ بصخرٍ ولم يكن صخرٌ علماً في رأسهِ نارُ.

لولا اختلاق القصص والروايات والحكايات التي لا تزيد في الدينِ ركعةً مُتْنَا كلنا، لن تكون هناكَ دمعة أو ضحكة أو اهتزازَ كتفٍ أو خشبةً يرتقيها ممثلون. من يمنع الشاعر أن يحكي عن المرأةِ التي أحبت زوجها وغابَ في حدثٍ وماتت بعده أن ترثيهُ بما ليسَ فيه وتلك التي لم يعد ابنها وعادَ سيفهُ ورمحه أن تخاطبَ الرمحَ والسيف وقاتلهُ وتجلس على قارعةِ الطريقِ تندبهْ ومن يحاكم المقتولَ في عددِ ركزاتِ الرمحِ التي نالها وهل أصابت قلبه أم النياط!

أيها العقلُ لا تتوقف عن أن تكونَ العقلَ الذي يحلل ويقرر ولكن قِفْ عند حدودِ الفنِّ الذي لا يضرك، لا تحاكمه وتحاكمنَا معه. نحتاج أن نتنفسَ الخيالَ ونغذيهِ من بعدنا للذينَ يَقُصُّونَ ويكتبونَ الشعرَ والنثرَ ويرتقونَ الأخشابَ والأعواد. متى ما حاكمتَ الشجرةَ الكبيرة بجرمِ العشبِ الذي نما حولها اجتثثتَ الأزهارَ والشجرةَ دونَ أن تضر العشب. دع المنتصرَ يحكي حكايا النصر ودع المهزومَ يرتل ترانيمَ الجراحاتْ ودع الأمَّ والحبيبةَ والأجيالَ ترويها وتزيد فليست الأحداث سوى صلاةِ الأدباءِ والعاشقينَ وأصحاب الخيال.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
17 / 9 / 2018م - 3:27 م
كتابة جميلة ، وحبذا لو كان لخيال أصحاب الريشة والألوان نصيباً ، حيثُ الصور التي يجسدها الرسام بريشته تحمل من الخلود الى ماشاء لها الزمن وتغذي بصر المتخيلين لحكايات الزمن البعيدة ..
كل الشكر على جمال الطرح ولطف الفكرة ..
مستشار أعلى هندسة بترول