آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

زيوتُ الكرامة

من طرائفِ الحكمةِ في أدبِ الهزائمِ أنه كانَ يعيش في أحدِ الأماكنِ المهجورة مجموعةٌ من الفئرانِ في سلامٍ آمنين لا يشغلهم من امورِ الهررةِ شيء. لكنه كما هي الأيامُ لا تسالم ؤلا تهادن طويلاً، تنبه هرٌّ إلى مكانهم فأخذ يتصيدهم واحداً تلوَ الآخر. خافَ الفئرانُ على أنفسهم فدعاهم كبيرهم الى اجتماعٍ للنظرِ في كيفيةِ الخلاصِ من الهلاكِ المحتوم إلَّم يفعلوا شيئاً. تداولَ الفئرانُ الرأيَ بينهم وخلصَ كبيرهم إلى أنهم يعلقوا في رقبةِ الهرِّ جرساً حتى إذا ما أقبلَ سمعوا جلجلةَ الجرسِ ولاذوا بالفرارِ وسلموا كلهم. فرحَ الجميعُ بمنطقِ الرأيِ ولكن انقلبَ الفرحُ غماً حين طلبَ كبيرهم فأراً يتبرعَ لتعليقِ الجرسِ في عنقِ الهر. حكمةٌ طريفةٌ ولكن هل تشبهنا نحنُ البشر كيف نستجيب لرأيِ القادةِ الذين يهتدونَ لإنقاذنا ويحتاجونَ أن نكملَ الفكرةَ ونعلقَ الجرس؟

لن يقود كل اسدٍ زمرةَ أسودِ ولن يسودَ كل إنسان وعندما يسود ليس مضموناً أن تعينهُ الناسُ وتعلقَ الجرسَ الذي يخلصهم من مآسيهم. قصَّ القرآنُ خبرَ بني إسرائيل مع النبي موسى حين أمرهم بدخولِ الأرضِ المقدسة ”قَالُوا يَمُوسى إِنّا لَن نّدْخُلَهَا أَبَداً مّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَب أَنت وَ رَبّك فَقَتِلا إِنّا هَهُنَا قَعِدُونَ“، كان لهذا الرفضِ استثناء في رَجلين لا أكثر ”قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ? وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ“. ليس الأنبياء وحدهم من تتحول وجوهُ من يأمرونَ بالتضحيةِ إلى أشباحٍ وتصدأَ سيوفُ أتباعهم عندَ النزالِ ولكن كل القادة ومن يأمرون أتباعهم أمراً ينكشف فيه الموتُ على الحياةِ أو يتوقفَ رنينُ الدراهمِ الذي كانَ يطرب آذانهم ويملأ صراتهم. الأكثر وجعاً أن الناسَ يرفضون تعليقَ الجرسِ ويطيعونَ الشيطانَ الذي يقودهم إلى أوديةِ الهلاكِ واحداً تلوَ الآخر ”فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ? فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ?“.

غباوةُ الفئرانِ قادتهم إلى الإنكشافِ على الهررةِ حينَ لم يعلقوا الجرس ويهلك البشرُ الذينَ يرفضونَ القادةَ الذين يشبهونَ زيتَ الكرامةِ الذي يشتعل في القناديلِ ليضيءَ لهم الليلَ البهيم. هلك الناسُ ولم يضر هؤلاءِ القادة رفض الناسِ طاعتهم وبقيت نياشينُ الرب التي علقها على صدورهم. بقي موسى نبياً من أولي العزمِ وطالوتُ ملكاً لبني إسرائيل وبقي الحسينُ إماماً قامَ أو قعد، هي نياشينُ النصرِ يعلقها الربُّ حينما يمنعها البشر ومشاريعٌ الهدايةِ يحققها الربُّ فيمن أطاع.

تظلُّ مدى الحياةِ تنهدات الخيالِ من الألمِ الذي يمنعه من معرفةِ ماذا لو أطاعَ البشرُ قياداتهم الربانية أو تلكَ التي تحرق نفسها لهم، كيف كانت ستكون حياتهم وحياة من بعدهم؟ سؤال لا يوازيه إلا ما ضَرَّ إبليس لو سجد لآدم، هل سيكون في البشرِ عصاةٌ أو كلهم سوفَ يعلقون أجراسَ النجاة؟

مستشار أعلى هندسة بترول