القدر الأعمى
من يسافر بعيداً عن أهلهِ غريب ومن هو في وطنهِ يحملُ همَّ الدنيا كُلَّ حينٍ هو غريب، كيفَ إذا اجتمع الهمان؟ يحملُ كُلُّ إنسانٍ في طياتهِ مقداراً من الألمِ يبعث فيه حبَّ الدنيا ويحثه على النهوضِ والرجاء لكن في لحظةٍ ما ينفجر البغضُ والكراهية للعيشِ ويقول الإنسانُ للموتِ خذني معك فالرقصُ على أوتارِ القبرِ يُضحك أكثرَ من هذه الحياةِ التافهة. هذه القصة ليست من الخيال وهي وليدة الساعة:
في الثامنة والثلاثين من العمر في عملٍ لا يكفي عجوزاً وعجوزة وزوجةً في الخامسة والعشرين وابنتان وولدٌ في السنةِ الأولى من عمره وبقرةٌ فيها غذاء الصغارِ في زاويةِ المنزلِ الصغير المهلهل الذي ليس فيه كهرباء. اغفر لي يا ربِّ إن قلتُ أن الموتَ أرحمَ من بعضِ الحياةِ التي يأخذ لها المترف صورةً ويقول: هاكم القناعة التي هي كنزٌ لا يفنى!
أصابَ المرضُ حبيبته بعد أن جاءَ الطفلُ الثالث. باع البقرةَ وسأل المالَ ممن أعطاه حتى يجلبَ لها الشفاء من المرضِ العضال. تماثلت للشفاءِ وظنَّ أنَّ الدنيا ابتسمت له لكنها لم تعدو ابتسامةَ الليث، سافرَ لبلدٍ بعيدةٍ إلى هنا في عملٍ يأتي بالخبزِ والملابس للجميع، الف ومائتين ريال لاغير كل ماجادت به ديمةُ الدنيا كل شهر، الحمدُ للهِ انقشعت غيمةُ الفقر، ولكن بعد خمسةِ أشهرٍ انفجر المرضُ مرةً أخرى بجميعِ ألوان الألمِ السوداء ونامت وردته في فراشها، كل همها أن يصلَ إليها وتراهُ قبل اللحظةِ الأخيرة، لا تنفك تدعوه أن يأتي.
عليه أن يترك العمل الجديد ويجمع المال مرةً أخرى ربما تعطيه الأيامُ هو والصغار لحظاتٍ قليلة مع من يحب. قال باكياً ما أغبى القدر كيف يصيب الشخصَ مرتين؟ تأتي العلةُ مرتين وأشتري البقرةَ مرتين، هل ينفع البكاء؟ هل يرتطم الرأس بالحجر ويُدفن الجسدانِ في لحدٍ واحد؟
بكى حتى لم يكن بالجفن من دموع، صلى وأكثر من الركوع والسجود. هو يعلم أن الربَّ موجود وسوف تصل الرحمةُ له ولها وللصغار والعجائز. سوف يراها غداً ويقبل فاها قبل الموتِ أو يعيدها الرب لحوزته. بالطبعِ ليس هذا قدر التعساء أن يصرخوا أنا مسكين، أنا فقير. ليست التعاسة إلا حلقةً في سلسلةِ الزمن وبعدها تنفتح نافذةُ السماءِ بأحاديثِ الحبِّ للذينَ كلما انقضى يومٌ من تعاستهم انقضى يومٌ من فرحِ من جعلهم تعساء.
رحماكَ يا رب إذْ أعطيتَ بعضَ البشرِ قوةً أن يخفوا آلامهم عن غيرهم حتى لا يتألمَ الصديق أو يبتسم العدو.
