آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 1:42 ص

"إظلام"

أثير السادة *

ذاكرتي لا تنسى السنوات التي مرت وأنا أقضي الوقت في متابعة المسرح هنا وهناك، لذلك بوسعها إذا ما مرت من أمام عرض مسرحي أن تتذكر سريعاً كل الخدع والأخطاء والملاحظات والحيل التي لا تغيب عن جملة العروض، وتلك الدفاتر التي امتلأت بالكلمات المفاتحية والتوصيفات الجاهزة التي نطلقها مع آخر زفير نطلقه بعد حبس أنفاسنا في العرض.. هذا يجعلني أحيانا أخسر فسحة الاستمتاع بالعروض لأني أشاهدها كمدقق مالي، يريد أن يجرد حسابات العرض في نهاية المطاف.

قبل أيام ترك صديق من الذين نحبهم رسالة متوددة يدعو فيها لحضور عرضه في مهرجان المونودراما، فجربت أن أنسى كل الاستيحاش الذي يعترني من عروض المسرح وأحتال على ذاكرتي وأحضر في ثوب متفرج عابر، لا يحمل في يده قلما ولا في رأسه رغبة لمحاكمة العرض.. ليس خافياً بأني ممن يرى صلة المونودرما بالأدب أكثر منها بالمسرح، أي أنها قطعة أدبية أكثر منها قطعة أدائية، لكن ذلك لا يمنع من المشي إلى العرض والتسمر في واحدة من الكراسي داخل الصالة الباردة.

ركض الممثل بجسده في كل اتجاه، وهو يضحك تارة ويبكى أخرى، يغضب أحيانا، ويبتسم أحيانا أخرى، تلون مرارا وكانت الإضاءة تتلون معه، غير أن صوته الوادع لم يهب كلماته الوصول للجمهور في أحيان كثيرة، بثقلها ودلالاتها وتنويعاتها الصوتية، كان بمثابة امتحان ألفناه في مختبرات المسرح، حيث يفضل المسرحيون محاربة التكنولوجيا، فإذا كانوا يفضلون العتمة على النور الساطع، والجسد العاري على هندام الحياة، فالأولى أن يتحسسوا من الميكرفونات فيفضلوا للصوت أن ينطلق حرا بعيدا عن المحسنات الصوتية، صوتا يصدر من الروح إلى الروح، لكن ما العمل إذا كان القفص الصدري لا يساعد!.

المعنى في الجسد، غير أن الجسد عينه يستعين بالصوت كرافعة بيانية، أنفاس الممثل وهمسه وصراخه وتماوجات صوته كلها بحاجة إلى أن تصل إلى آخر كرسي في قاعة العرض.. عظيم هو صوت الإنسان، في جهوريته وحضوره الحي، غير أن مقيداته كثيرة في صالات لم يجري هندستها بنحو يرفع من مسموعيته في كافة الاتجاهات، ليست المسألة متصلة بالتمارين الصوتية فقط، بل هنالك تحديات فنية وغير فنية تعوق مسألة الاتكاء على الأداء الصوتي غير المسنود بالتقنيات الصوتية، كمكبرات الصوت، فجزء من تجربة معايشة العرض هي الاحساس بكل مفرداته وعباراته، وما لم يتكفل العرض المسرحي بضمان جودة الأداء الصوتي فإن أداء الممثل الجسدي وعملية التوصيل بين العرض والجمهور ستكون عرضة دائمة للإرتباك والاهتزاز.

نريد أن نرى ونصغي في آن معاً، ودون ذلك سنجد أنفسنا في معظم الوقت نراقب عقارب الساعة، وهذا يعني بأن أرواحنا خرجت من حيز المكان، وباتت تخيط قمصانا للهرب.