آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 4:24 م

ماءُ السماء

المهندس هلال حسن الوحيد *

لا يعرف الأبُ حُبَّ صغارهِ إلا ساعةَ يأتيه البشيرُ بأنه جاءكَ مولود فكأنَّ الحب يُولد مع الوليد! قبل ذلك كان يعرفه من الكتبِ ومما يخبره والداه أنهما يحبانه. تراه طولَ الوقتِ يشاكسهما ولا يطيعهما، يسير فوقَ حبالِ الموت كل يومٍ دون أن يعرف أن بموته تموتُ أمهُ ثم أبوه، حتى إذا ما جاء الصغيرُ ربما عرف معنى الكلمة. تعرف الأم معنى الحب بالتكوينِ ولديها أيام الحملِ التي فيها يكون ما تحمله جزأً منها، تغذيهِ وتعتني به، تهدهدهُ وتناغيهِ كأنه يعرف معنى ما تقول.

من روائعِ الأدبِ العربي قصة الطفلِ الذي أغراه آخر أن يأتيه بقلبِ أمهِ الذي لم يكن إلا هو الرمز فيه، وكأنَّ الطفلَ لا يعرف أنه هو قلبُ امه، أسرع إليها وأغرزَ خنجراً في صدرها وأخرجَ قلبها الصغير. لم ينقطع قلبُ الأم عن حب الصبي خارج الصدرِ حاملاً ألم الابن الذي تعثر في الطريق:

أغرى امرئٌ يوماً غلاماً جاهلاً

بنقودهِ حتى ينال به الوطر

قال ائتني بفؤادِ أمكَ يافتى

ولك الدراهم والجواهر والدرر

فمضى وأغرز خنجراً في صدرها

والقلب أخرجه وعاد على الأثر

لكنه من فرطِ سرعته هوى

فتدحرج القلبُ المعفر إذ عثر

ناداه قلبُ الامِّ وهو معفرٌ:

ولدي، حبيبي، هل اصابكَ من ضرر؟

فكأن هذا الصوت رغم حنوهِ

غضب السماءِ على الوليدِ قد انهمر

ورأى فظيعَ جنايةٍ لم يأتها

أحدٌ سواه منذ تاريخ البشر

وارتد نحو القلبِ يغسله بما

فاضت به عيناهُ من سيلِ العبر

ويقول: ياقلب انتقم مني ولا

تغفر فان جريمتي لا تغتفر

وإذا رحمتَ فإننيْ أقضي انتحاراً

مثلما يوضاس من قبلي انتحر

واستل خنجرهُ ليطعن صدره

طعناً سيبقى عبرةً  لمن اعتبر

ناداه قلبُ الأمِّ: كفَّ يداً ولا

تذبح فؤادي مرتينِ على الأثر

الامهاتُ ماء السماءِ وهبة اللهِ على الأرض، ينام الصغير ويسهرون، يمرض الصغير ويتألمون، يقولون ”يا ولدي الطعام ينتظرنا“ وهم يعنون الطعام ينتظرك أيها الصغير وفي كلِّ هذا يموت الصغير فيموتون، إلا أمهات الشهداء فهم يحيونَ بموت أبناءهم! في هندسةِ الكونِ كل الأشياء تحتاج منحدراتٍ تجري فيها من الأعلى للأسفلِ إلا حب الأم يستطيع النهوضَ والاندفاع معاكساً كُلَّ منحدراتِ الحياة، مرحى لكلِّ أم!

مستشار أعلى هندسة بترول