آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

إشارات الملا باسم

أثير السادة *

الأصوات كثيرة، ومحترفوا النياحة يتكاثرون كتكاثر القصائد العاشورائية، غير أن صوتاً واحداً مازال يرسم ملامح هذا المشهد الإنشادي، وهو يكتب فصول تحولاته على مستوى اللحن والأداء والفيديو كليب، وحتى القصيدة التي انزاحت باتجاه غنائية عالية، حيث الاستعارة المستمرة من غزليات الشعر.

انتخب باسم لنفسه لونا انشاديا يتكيء على ثراء لحني باذخ وهو الذي يملك طبقة صوتية عميقة في قرارها وجوابها، حاول أن يزاوج في مسيرته بين الأدائيات التقليدية التي تغرف من التراث النجفي والكربلائي على السواء، وبين مغامراته اللحنية التي فتحت الآفاق للكثيرين من الذين جسروا الهوة بين الانشاد الديني والغناء باعتبارهما صنوان على مستوى الخزين اللحني لبلاد الرافدين.

ينتمي هذا الصوت الكربلائي لزمانه بالدرجة الأولى، لذلك نراه يمشي مع الموجة السائدة تارة، ويتجاوزها تارة أخرى، غزارة الإنتاج جعلته في رغبة مستمرة لاصطياد ألحان جديدة، في الوقت الذي مثل له جابر الكاظمي نهرا شعريا سلسلا وقابلا لإعادة التكييف، الأمر الذي هيأ الفرصة لاجتماع فتنة الصوت بفتنة الصور الشعرية، قبل أن تصبح دفاتر شعراء الحزن مفتوحة جميعها لهذا الصوت اللافت.

موجة الفيديو كليب التي عرفتها ساحة الانشاد الديني أخذته إلى مغامرات الحضور البصري، إلى النظر في مرايا التقنيات الحديثة والإفادة منها في توسيع دائرة الحضور المقدس للرادود، وهي الموجة التي أعادة دوزنة صورة الرادود وتمثلاتها الثقافية والاجتماعية، فنحن مع الفيديوكليب أمام تجارب أدائية، لم يعهدها الرادود، ولم يكن لها أي أمثلة سابقة، ما جعل من ساحة الغناء الوجهة الأقرب للمحاكاة والإفادة في هكذا صناعة.

الارتباك كان سيد الموقف لدى الكثيرين في لحظة الدخول إلى عالم الفيديوكليب، وكانت قناة فورتين الدليل على هذه الهبة وإشكالاتها الذوقية والفنية والثقافية وحتى الأخلاقية، ولم يكن باسم خارج هذا النص البصري الجديد، بل هو أكثرهم مضياً في منادمة الصورة، مثقلاً بأحلام التمدد في صفحة الناس، فطرق أبواب المخرجين في سوريا والعراق والكويت وتهيأت له قبل غيره فرص التنفيذ الاحترافي في صناعة هذه الفيديوكليبات.

وبينما كان باب الحزن الكربلائي مشرعا لصعود المزيد من الأصوات بعد سقوط النظام العراقي السابق، حافظ باسم على خطواته في هذه السوق الآخذة في الاتساع، بداية بتسجيلات التقلين في الكويت والفروع المتعاونة معها في الخليج، ومرورا بالفضائيات الدينية التي جعلت منه شريطاً لا يتوقف عن الدوران، وانتهاء بمواقع السوشيال ميديا والتي أكدت بأرقامها على حضوره كواحد من نجوم الموجة الجديدة.

ترافق مع هذه التحولات المختلفة على مستوى الانشاد الديني وطرق تقديمه وتسويقه، تحولا في صورة الرادود ووظائفه، في تعريفه وشكل حضوره الاجتماعي، أصبح الرادود مؤدياً بالدرجة الأولى، وطرفاً مستقلاً في صناعة الحزن وليس مكملاً هامشياً، يتكئ على وسائل التواصل الجديدة في التعريف بذاته بمثل ما يتكئ على مهرجانات الدموع والساحات المفتوحة، لا يذكره الناس اليوم بسبحته ومسحة الحزن المستقرة على وجنتيه بل بحضوره الأنيق وبوستراته كثيفة الضوء والظلال، حتى جسده جرى إعادة هندسته ليتلاءم مع مونتاجات الميديا الحديثة، ومن يتابع حسابات الصاعدين الجديد سيجد أفعال الميديا حاضرة في التعريف بذواتهم وتسويقها.

وفي مقابل الخطيب الحسيني الذي رسم حدود صورته منذ البدايات، ظل الرادود صورة متأرجحة ما بين استئناسه بصوته، وانشغاله بالرثاء، أي أنه مأخوذ في نواياه بالتشديد على ذاته من جهة، والتعبير عن التزامه بقضيته من جهة أخرى، وحين اتسعت وسائط التعبير عن الذات، واستظهار حضورها الاجتماعي، كانت الإحالة عليها - أي الذات - هي أكثر الإشارات كثافة في سيرة الرادود الذي وجد نفسه في ساحة الناس، واحدا منهم، يتأثر بهم، ويندفع للاستثمار في اتصاله معهم.

والخلاصة أن باسم، الملا والرادود والمنشد، سيظل يغري الناس على الاختلاف حوله، طالما استمر في إعادة تشكيل صورة الرادود، عبر مغامراته التي غالبا ما كانت عنوانا للتحولات في مشهد الانشاد الديني في شقه الشيعي، والتي عادة ما يختصر سلسلة النقد فيها بالدخول بمغامرة أخرى، حتى لا يكون أمام عامة الناس إلا متابعته، ولا يكون أمام بقية المنشدين إلا مسايرته.

وبس