آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

المثقف الديني وإنتاج المعرفة وتنمية الثقافة

حفيظ اسليماني مجلة الشارقة الثقافية

واجهت الحضارات، ولاتزال تواجه، تحدي الثقافة بوصفها الوجود ذاته، كما تواجه تحديات جساماً: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، دينية.. هذه التحديات أصبحت أكثر أهمية وخطورة في ظل العالم الذي أصبح كشاشة تلفاز أمامنا. ومن هنا تبرز حاجة الأمم إلى نوع من الناس، يكونون بمثابة الحارس للهوية والمخطط الراسم للمستقبل، كي لا تقع مفاجآت تحدث خللاً في التقدم والازدهار، ومن هنا فإن المثقفين هم المقود لرسم خارطة الطريق نحو مستقبل أفضل، بعيداً عن المشاكل، أي مشاكل.

يرى المفكر السعودي زكي الميلاد، أن هناك حاجة ملحة لانبعاث المثقف الديني، وهي حاجة المجتمع قبل أن تكون حاجة المثقف الديني، منبهاً إلى أنه لا ينبغي أن ينتظر المثقف من المجتمع أن يُعيد له مكانته، بل لا بد أن تأتي الخطوة الأولى من المثقف نفسه، فيعمل لانتزاع دوره، ويسجل حضوره بفاعلية ونشاط، بطريقة يفرض فيها على المجتمع احترام ما يقدمه من عطاء، وما يُسهم به من أدوار ووظائف.

إن مهام المثقف الديني، هي المهام التي يُفترض أن يكون هو الأقدر على إنجازها من بين الفاعلين في ميادين النشاط الاجتماعي، والتي لا تتعارض أو تتصادم مع ما تنهض به الفئات الاجتماعية الأخرى من مهام. يقول زكي الميلاد: «وإذا اعتبرنا المشكلة الثقافية، ومشكلة الأفكار في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، من المشكلات البنيوية الخطيرة التي تتأثر وتنفعل بها جميع المشكلات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية والسياسية، فإن هذا يؤكد أهمية وفاعلية دور المثقف الديني، الذي يُفترض أن يولي اهتمامه الأكبر للمسألة الثقافية لكونه يدرك أبعادها وخطورتها».

تلك المهام تتسع في مداها وتعددها وشموليتها، بالاتساع الذي يعبر عنه الدين الذي يأخذ منه المثقف مرجعيته، وتُلزمه هذه المرجعية بواجباتها ومسؤولياتها، وبالاتساع الذي تُعبر عنه الثقافة، التي يتعامل معها المثقف كحقل اهتمام واشتغال. كما تشمل هذه المهام المجتمع الذي ينتمي إليه المثقف جغرافياً، والأمة التي ينتمي إليها دينياً، والعالم الذي ينتمي إليه إنسانياً، فما هي تلك المهام؟

إنتاج المعرفة وتنمية الثقافة:

يعتبر زكي الميلاد أن هذا المجال ينبغي أن يكون في مقدمة أولويات اهتمام وعطاء المثقف، باعتباره المجال الذي ينتسب إليه، ومنه يكتسب صفته، فالمعرفة التي ينقطع المثقف عن التزود منها، والتفاعل معها، هذه المعرفة بحاجة إلى أن يكون المثقف جسراً لها إلى المجتمع والأمة، بعد تنقيتها وتصفيتها مما قد تحمله من شوائب وأضرار، وبقدر ما تتأكد الحاجة المفترضة للمثقف الناقل لهذه المعرفة والمعمِّم لها. ويقول زكي الميلاد: «ونحن في العالم العربي والإسلامي، مازلنا بحاجة إلى وعي أكبر وأنضج في إدراك حاجتنا للثقافة، الحاجة التي لا ينبغي على الإطلاق التقليل من شأنها، أو الاستهانة بها، والتعامل معها وكأنها من الأمور الثانوية والهامشية». هذا هو الفارق الأساسي بين الأمة التي تملك منظوراً حضارياً متطوراً، وبين الأمة التي تفتقد هذا المنظور، أولاً لا ترتقي لمستواه، فيغيب عنها الوعي بإدراك قيمة الثقافة، والحاجة الحيوية لها في كل مرافق وأبعاد المجتمع والأمة والحياة.

إن حالنا اليوم بحاجة إلى أن تتضاعف الجهود لمواجهة النقص في مجال المعارف والعلوم «حسب زكي الميلاد» يتوقف على إدراكنا لمستوى حجم التراجع الذي نعيشه، كما يتوقف على نوعية الرؤية التي نعبر عنها في نظرتنا للمستقبل الذي نتطلع إليه.

ومن هنا وجب على المثقف الديني إنجاز هذا الدور، الأمر الذي يتطلب منه التقارب والتفاعل مع الناس والمجتمع والأمة، لمعرفة أولويات حاجاتهم الثقافية، الحاجات التي تفتح للأمة آفاقها، وتستكشف لها طريق نهضتها، وتبلور رؤيتها لواقعها ومشكلاتها، وتمكنها النظر للمستقبل بإرادة وتصميم.

مواجهة الاختراق الثقافي: هذه المقولة «حسب زكي الميلاد» أطلقها الخطاب الإسلامي منذ وقت مبكر، قبل أن تنهي أوروبا ما عُرف بالانتداب على الدول التي أخضعتها لسيطرتها الاستعمارية، وتجدد الحديث عن هذه المقولة في مرحلة ما بعد الاستقلال، مع ظهور الدولة العربية القُطرية الحديثة، ولكنها برزت بشكل واضح مع حقبتي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وذلك على أثر السجالات الاحتجاجية الساخنة بين الفكر الإسلامي والإيديولوجيات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الوافدة من المرجعيات الفكرية والفلسفية الأوروبية.

ويرى زكي الميلاد أن الخطاب الإسلامي عبّر عن هذه المقولة بعنوان الغزو الثقافي، أما الخطابات غير الإسلامية، فقد استُقلبت آنذاك بنوع من التحفظ والشك والنقد، مقللة من أهميتها، وعابت على الخطاب الإسلامي انغلاقه، ووصفته بالتحجر والتعصب، وعدم الانفتاح على الثقافات والمعارف الحديثة والمعاصرة، وسدّ الطريق على المجتمعات العربية والإسلامية أمام اكتساب العلوم والنُّظم الحديثة والمتطورة، وهناك من نظر إلى هذه المقولة على أنها مقولة زائفة، ومن نتاج واقع التخلف.

إن التباين الفكري الحادّ في الموقف يفسر لنا «أن الخطاب الإسلامي كان يعطي أولوية أساسية لمسألة الهوية، والتي كانت تتعرض حسب رؤية هذا الخطاب، لاختراقات شديدة وضخمة ومنظمة من الغرب والثقافة الغربية، الذي استعمل أجهزته ومؤسساته وقوته وتفوقه لفرض ثقافته، وتعميم نمطه القيمي والأخلاقي على مجتمعات العالم العربي والإسلامي. في حين أن الخطابات غير الإسلامية كانت تعطي الأولوية لمسألة التحديث والتقدم، من دون مراعاة لمسألة الهوية، وعدم الرهان عليها، أو جعلها عقبة أمام محاولة التحديث والتقدم، والذي كان من الممكن في رؤية أصحاب هذه الخطابات، أن يتحقق بعيداً عن الغرب، والارتباط بثقافته ومناهجه ونُظُمه التي وُصفت بالحداثة، وعلى خلفية التقدم والانتقال الحضاري. وبعض هذه الخطابات التي رفضت وشككت سابقاً بمقولة الغزو الثقافي، أخذت فيما بعد تحذر مما أطلقت عليه الاختراق الثقافي، وبدأت تلتفت إلى هذه الظاهرة مع تعاظم ثورة الاتصالات».

ومع العولمة؛ لم نعد وحدنا في العالم العربي والإسلامي من بات يتظاهر ويتحدث عن هذا النمط من الخوف تجاه الاختراق الثقافي، بل العالم كله يواجه نفس التحدي.

وهنا تبرز مسؤولية المثقف، الذي ينبغي أن يكون سداً أمام هذا الاختراق الثقافي والأخلاقي والقيمي، لا أن يكون جسراً لعبوره، الأمر الذي يقتضي أن يُعاد النظر في جدلية العلاقة بين الهوية والتقدم، والهوية والتحديث، فنحن «نريد التقدم، لكن لا نريده اختراقاً للهوية، ونريد التحديث، لكن لا نريده انقلاباً على الهوية». وعلى المثقف الديني إذاً أن يدرك أنه يقف اليوم أمام أخطر جبهات الأمة تحدياً، وأشد ثغورها حساسية، وأن يكون يقظاً وحذراً، ويدفع بوعي نحو التصدي لهذا الاختراق، ويقوي مناعتها الثقافية والدينية، ولن تستطيع الأمة مواجهة هذا الاختراق إلا بالتمسك الواعي بالدين الذي يكسبها المناعة والقوة والتصدي.

- الاهتمام بالمشكلات الكبرى في الأمة: إن أخطر ما في المشكلات التي تواجه الأمة، حسب زكي الميلاد، هو غياب الوعي بهذه المشكلات، وعدم الاهتمام بها، فلا يتم التوجه الجاد لهذه المشكلات بالدراسة والتفكير والتخطيط، ما يجعلها تستفحل وتتوطن وتتجذّر، ويصعب عندئذٍ اقتلاعها، ومن ثم تتضاعف الجهود والإمكانات التي تتطلب مواجهتها، كما يتضاعف الزمن والوقت الذي يُحتاج إليه لمعالجتها والتصدي لها. يقول معلقاً على ذلك: «إن غياب الوعي عن هذه المشكلات الكبرى في الأمة، يكشف عن الضعف الشديد الذي أصاب العقل العربي والإسلامي، ويكشف أيضاً عن أزمة الثقافة والمعرفة، وانحدار مستويات التربية والتعليم، وتراجع التعليم العالي والبحث العلمي».

لذلك يجب على المثقف بشكل عام، والمثقف الديني على وجه الخصوص، أن ينهض بما يمتلك من وعي وإدراك لواقعه وعصره، وقدرته على تشخيص مشكلات الأمة الكبرى، وهي المشكلات التي يُفترض من المثقف الديني أن يصرف لها طاقاته وقدراته الفكرية والمادية، ويدفع بالأمة لأن تستجمع قدراتها وإمكاناتها، وتركزها وتنظمها وتفعلها، نحو مواجهة هذه المشكلات، لا تضيِّع جهودها، وتستنزف ثرواتها في قضايا أو أمور جانبية أو جزئية هامشية.

إن الواجب على الأمة إذاً «التوقف عن النزاعات الداخلية والحروب الأهلية، والصراعات بكافة أشكالها الدينية والمذهبية والقومية والعرقية، التي كرّست في الأمة التجزئة والإحباط، وعطلت برامج التنمية وخطط الإصلاح والعمران، في الأبعاد كافة، الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والعمرانية». هذا الأمر يفرض على المثقف الديني، أن يكون بوصلة الأمة التي توجّهها نحو مشكلاتها، وقضاياها الرئيسة، وأن يكون مدافعاً عن التقدم مواجهاً التخلف.

هكذا إذاً يكون المثقف الديني، أمام مسؤوليته العظيمة جداً، فمصير تقدم وتطور بلده رهين بدروه الحضاري الفعال، لذلك فهو مطالب باستمرار في الاجتهاد لدفع عجلة بلده نحو مصاف الدول المتقدمة، وعليه في الآن نفسه أن يعي أنّ عليه رسالة إنسانية في إطار ما هو عالمي، وبذلك نكون أمام مثقف ديني حقيقي، يحمل رسالة، هي رسالة البناء والرقي.