آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:54 ص

همسة محب

ورد عن الإمام العسكري : من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه» «تحف العقول ص 489».

يتصور البعض أن توجيه نقد هاديء لفكرة أو سلوك صادر منه محاولة لانتقاص شخصيته ومقامه، أو أنه اتهام غير مباشر له بالتقصير ومحدودية الإنجاز، أو يعتبره تدخلا سافرا في خصوصياته والتي يعتبرها منطقة محظورة لا يسمح للآخرين باقتحامها، أو يحمل تصورا خاطئا للنصح على أنه صوت يعمل باتجاه مضاد لطموحه وهمته العالية، إذ استماعه لنصح الغير يصيبه بالإحباط وبالتالي التوقف عن أهدافه، ولكل تلك العوامل يعرض صفحا عن نقد الغير.

والأفظع أن تحضر التفسيرات الخاطئة والمريضة لرسالة الناصح الشفيق، فهناك من يتجاوز في فهم توجيهه لأمر ما فيغوص في قراءة النوايا وافتراض الخبث في ذلك، فيعتقد أن النصح محاولة لتغطية تقصيره وعيوبه، فيصوره بالمقصر ليداري ذلك عن نفسه، فيقابل توجيهه اللطيف بلسان حاد وردة فعل عنيفة يعدد فيها أخطاء الآخر، كنوع من الدفاع عن نفسه بمهاجمة الآخر وإسكاته وصرفه عن فعل ذلك مرة أخرى، ويعتبر هجومه رسالة مبطنة للآخرين بألا يقتربوا من نصحه وإلا سيلاقون هجوما مماثلا.

لا يوجد منا من يسلم عمله من التقصير والشطط أو فكرته من الخطأ ولو بنحو جزئي، وهذه التربية - ثقافة تقبل النصح والنقد الإيجابي - إن ترسخت أنتجت منا استماعا لصوت النقد دون تأفف أو اعتراض، والطريقة المثلى لمعالجة الأخطاء هو بذل النصح والنقد الإيجابي؛ أملا في تغير ذاك الواقع وتبدله إلى الصواب والصلاح، فهناك المحب لنا ممن يسعى لتقويم سلوكنا وتصويب قولنا دون وجود مآرب مبطنة، ممن لا يضمر لنا بغضا ولا يتحرك بنحو الالتفاف إلى تسقيطنا أو تحطيم طاقاتنا وقدراتنا.

فالنصح بذل الرأي للجميع بغية رؤية الفلاح سمة لهم، فالسعادة تغمر الناجحين المخلصين لرؤيتهم تقدم الآخرين ونجاحهم في تحقيق أهدافهم، فالخطأ يشكل حجر عثرة يحجب الإنسان عن إكمال مسيره، ونصحه ليس بأكثر من إماطة الخطأ من طريقه.

والنصح والتعيير ونشر الفضيحة مفاهيم شتى لا تلتقي، فالنصيحة همسة تنطلق من فم محب يريد الخير للمخطيء أو المقصر، بينما التعيير تصوير لهذا الخطأ كوصمة عار لا تمحى ونقطة سوداء في سجله لا تزول، وطلب فضيحته نشر لذاك الخطأ بين الناس ليشكلوا صورة قبيحة عنه لا تزول، وبث المثالب سمة اللئام ممن يستهويهم الاحتراب بين الناس.

والنصيحة هبة محب صاحب ضمير يرى الآخر في وضع خطر بصدور القبيح والعيب منه أو تكراره، ولولا أنه يعني له الكثير ويرغب في رؤيته بأحسن حال وسمعة بين الناس، يهب إلى إرشاده ورفع هذه الصفة التي تلوث عمله وسمعته صونا لمكانته.

ووجود الناصح المحب لا ينفي وجود المغرضين أصحاب المآرب اللئيمة، فيحضرون بقوة لجمع العثرات واقتحام الحياة الخاصة للغير - وخصوصا المتألقين -، فيجعل من تلك الأخطاء بداية لنسج خيوط هدم الآخر وتسليط الأضواء على عثراته وهفواته؛ ليكون حاضرا في حديث المجالس والاهتمام الأول عند هواة الفضائح وكشف الأسرار.

الغاية الحسنى من توجيه النصح هو تقويم أخطاء الغير، لرغبتنا برؤية الآخرين بأحسن الأحوال لا تدنس شخصياتهم وسلوكياتهم ما يعاب من الأفعال، مع اختيار الطريقة المثلى والكلمات اللينة والوقت المناسب للتوجيه، دون جرح لمشاعره أو كشف لها أمام الملأ بل نعدها من الأسرار التي لا ينبغي أن يطلع عليها غيره، بل لعلنا نهدم مروءة وكرامة المرتكب للسيئة والخطأ إن شهرنا به فيزداد عنادا وغيا بسبب ذلك.

وكثيرا ما تقع الكراهية والاحتراب بين أفراد المجتمع بسبب حديثنا عن خطأ أحدهم فشاع بين الناس، فساءه ذلك وأضمر السوء والحقد لمن كان سببا في انتقاص مكانته وشأنه، كما أن هذه النصيحة أمام الملأ تفقد الثقة المتبادلة ويتفشى الحديث بسوء عن الآخرين، وكان التوجيه العلني سببا في السقوط في آفة تتبع العثرات والفحص عن الأخطاء لتغدو العناوين البراقة والمثيرة في المجالس والمنتديات.