آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

جدلية الجغرافيا في العصر الحديث

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، برز عاملان رئيسيان، أثّرا بشكل كبير في تغيير الخريطة السياسية والاجتماعية في المنطقة. فمن جهة كان التململ القومي لدول البلقان، في محاولات للتخلص من السيطرة العثمانية. وقد كان لتلك المحاولات تأثير في دفع النخب الاجتماعية العربية، لتبني مشاريع تراوحت بين المطالبة بالحكم الذاتي، أو الاستقلال التام عن السلطنة العثمانية. لكن الأهمية الاستراتيجية للوطن العربي، قد حالت دون تحقق حلم العرب في التحرر، حتى بعد هزيمة الأتراك، حيث استولى الفرنسيون والبريطانيون، على معظم أرجاء المشرق العربي.

وحين نتحدث عن الأهمية الاستراتيجية، فإن الحديث هو عن الجغرافيا، عن البحر، والمعابر والممرات، والثروات والطاقات البشرية الكامنة. وعن شرق السويس، وطريق الحرير، وعن الوصول للهند، درّة التاج البريطاني، وأيضاً عن قناة السويس، والمضائق الموجودة في مشرق الوطن العربي ومغربه.

فبالنسبة للجزيرة العربية، على سبيل المثال، فإن كونها نقطة وصل لثلاثة من البحار الرئيسية في هذا الجزء من العالم: البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، والبحر العربي، وكونها نقطة وصل مباشر بين قارتي آسيا وإفريقيا، وفي بحارها يوجد مضيقان مهمّان للملاحة الدولية، هما مضيق باب المندب في الجنوب عند مدخل البحر الأحمر، ومضيق هرمز في الشمال الشرقي من الجزيرة العربية عند مدخل الخليج العربي، قد جعل موقعها موضوع اهتمام كبير ومحطاً لأنظار القوى التقليدية الكبرى المتنافسة، خاصة بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وبعد أن أصبحت قناة السويس معبراً استراتيجياً مهماً لا غنى عنه بالنسبة للتجارة الدولية.

وكان وجود هذه المنطقة، كما أسلفنا على الطريق إلى الهند، درّة التاج البريطاني، قد أعطاها أهمية خاصة في السياسة البريطانية التي كانت حريصة على تأمين سلامة هذا الطريق، وإبعاد المتنافسين عنه، خاصة بعد بروز مشروع سكة حديد البصرة الذي تعهدت ألمانيا للحكومة التركية قبل الحرب العالمية الأولى بتنفيذه.

لقد كان ثقل الجغرافيا وأثرها حاضراً في كل المعارك والأحداث التي صنعت تاريخ العرب المعاصر. ففي مصر، أدرك محمد علي باشا أن مصير مصر وتنميتها يقتضي خلق جيش وطني وصناعة متينة، وأن ذلك لن يتحقق إلا بتبني طريقين، الأول هو التحديث والانفتاح على المنجزات العلمية الأوروبية في عصره، والثاني هو خلق إمبراطورية عربية. وقد توحدت الدول الأوروبية الغربية ضد هذا المشروع، وجاءت إلى المنطقة لإنقاذ السلطان العثماني، بعد أن انهزمت جيوشه أمام محمد علي باشا، فارضة على الأخير قبول الاستسلام، وواضعة بذلك حداً لأول محاولة جدية للتصنيع في الوطن العربي. وهكذا اكتشف محمد علي أن استقلال مصر وحداثتها لا يتحققان إلا عبر ارتباط وثيق بالوطن العربي، أما مصر المستقلة المعزولة داخل حدودها الإقليمية، فمآلها الحتمي هو الهزيمة والاندثار.

وقد سكن مثل هذا الوعي لدى القيادة السياسية التي تسلّمت الحكم، بعد 23 يوليو/ تموز 1952. فقد أدركت أن قوة مصر تتطلب انفتاحها على ثلاث بوابات: البوابة العربية والبوابة الإفريقية والبوابة الإسلامية. وبعد مؤتمر باندونج أضيفت بوابة رابعة لتلك البوابات حين نشطت مصر في حركة عدم الانحياز.

والواقع أن من غير الممكن فهم أسباب المعارك العسكرية التي خاضتها مصر منذ عام 1948، دون وعي دور الجغرافيا. فحرب فلسطين عام 1948 كانت معركة قومية، ولكنها كانت أيضاً معركة وطنية، لأن قيام دولة يهودية ذات تماس مباشر بالحدود الشمالية للبلاد، كان تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي المصري. إضافة إلى ذلك، فإن الدفاع عن عروبة فلسطين كان دفاعاً عن العمق الاستراتيجي لمصر.

أما معركة 1956، فقد بدأت مع محاولة لبناء السد العالي، من أجل التحكم في فيضان النيل، وتوسيع الرقعة الزراعية وتوفير الطاقة الكهرومائية للبلاد. وحين فشلت محاولات توفير العملة الصعبة اللازمة لبناء هذا المشروع، اتجهت القيادة المصرية صوب تأميم قناة السويس، الموقع المائي الاستراتيجي الذي يربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، فجرى تأميمها. وكانت مصر بذلك تنفّذ عملاً مشروعاً مرتبطاً بالسيادة الإقليمية من جهة، واستعادة لمصادر الثروة المصرية من جهة أخرى. وكانت ضخامة العدوان الثلاثي على مصر انعكاساً موضوعياً للأهمية الاستراتيجية لقناة السويس.

أما عدوان يونيو/حزيران عام 67، فقد كان من بين أسبابه محاولة العرب التصدي لقيام دويلة الصهيوني بتحويل مياه نهر الأردن لري صحراء النقب، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية كياناً مستقلاً يمثّل الفلسطينيين ويقود نضالهم لاسترجاع أرضهم. وبروز فتح في تلك الأجواء، ردّ على احتواء القادة العرب لمنظمة التحرير، وقيامها بعمليات فدائية عسكرية في العمق «الإسرائيلي»، وتهديد رئيس الوزراء «الإسرائيلي» ليفي أشكول باحتلال دمشق كرد انتقامي على تساهل النظام السوري تجاه العمليات الفدائية لفتح، وقيام سوريا بتوقيع معاهدة للدفاع المشترك مع مصر، وسحب القوات الدولية من شرم الشيخ وإغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة «الإسرائيلية». وقد نتج عن تلك الحرب احتلال «إسرائيل» لشبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية وقطاع غزة. وفي كل هذا التاريخ، نجد أن الصراع كان على مواقع استراتيجية وأراض ومصادر للثروة، مجسّدة وبشكل حاسم العلاقة الجدلية بين الجغرافيا بالتاريخ.