دروس الغراب
رأى غرابٌ حمامةً تمشي في خيلاءَ، جميلةَ المنظرِ وزاهيةَ الألوانِ فأعجبته هيئتهَا ومشيتهَا، ونظرَ إلى نفسهِ في لونٍ أسود، وصوتٍ يتشاءم منه البشر، ومشيةٍ لا تغري غيره، أدركَ أن هناكَ أشياءَ يستطيع تقليدها وتغييرها وأشياءَ لن يستطيع مهما احتال فيها. قال: ما هو ثابتٌ لن يتغير ولكن أستطيع أن أرفعَ رأسي وأعدل مشيتي مثلَ مشي الحمامة، ولكنه جنى في ابتداعِ مشيةٍ هجينةٍ وبشعةٍ لا تشبه مشيَ الحمامِ ولم يعد يتذكر كيف كان يمشي الغراب.
المشي نحو التغييرِ والتقليد ليس في مقدورِ الغراب ولكنه من حقائقِ الإنسانِ الذي يدرك أن في مسيرهِ نحو الرقي لا بد أن يبتدعَ ويقلد غيرهُ الإنسان، بل جميع المخلوقات. ”كل تراثٍ بشري“ يجب على الإنسانِ الابتداع فيه لدفعهِ للأمامِ نحو التكامل ولو في التقليد كنقطة انطلاق، شرطٌ واحدٌ ألا يخلق هذا التجديد ويولد أجنةً مشوهةً ليست ذاتَ هويةٍ قابلة للحياة، ويمنعها من النفعِ والانتفاع، إذ أن من الحكمةِ ما قيل ”ما لا يقدر كله لا يترك جله“، فلو تعذر الوصولُ نحو قممِ الكمالِ ليس للإنسانِ أن يعيشَ بين السواقي والحفر.
في الخط المستقيم نحو الإبداعِ مشت مجتمعاتٌ وأممٌ خلف غيرها ثم وصلت، وجلست أممٌ القرفصاء عجزاً وخوفاً من عارِ التقليد وبقيت حيث هي! لك أن تجدد في كُلِّ شيء إنساني، في العلمِ وفي الكلامِ وفي كل ما جاء به غيرك الإنسان، فلسفةُ الرقي يجب أن تدفعنا نحو النظر في ذواتنا والتطوير في كل ما حولنا. ثوابتُ تبقى كما هي تشدنا نحو جذورنا الدينية والأخلاقية والإنسانية التي تحفظ الصفات الكمالية والجمالية في المنتجاتِ الأصلية وما دونها ابتدع ما شئتَ ولا تفكر في العودةِ نحو السفوحِ والأراضي المنبسطة.
يختلف الإنسانُ في كثيرٍ من الأشياء ولكنه لا يختلف في الإبداع، وفي حب السيرِ للأمام والنظر للأعلى، وليس تراثٌ أو منتجٌ مما أنتجه محظورٌ أو محتكرٌ على غيرهِ في التقليد والتجديد، ونقله من مخلوقٍ مقبول وجميل إلى منتجٍ يقرب من الكمال. يبدع البشرُ أفراداً وجماعات وكلهم ينشدونَ السعادة، فلم لا نكون نحن إذاً من فيه النواة التي تنطلق منها البذرة التي تنبت الأشجارَ البواسق المرتفعة والمتشابكة الأغصان؟
تطرف وتصرف في قممِ الإبداع والخيال والتغيير الذي لا ينقض الثوابت فإن ذاكَ التطرف والجنون هو الذي ينقلنا نحو الرقي وبدونه تبقى الحياةٌ باردةً مثلَ الصقيعِ أو حاميةً مثل الجحيم. نقلاتُ الحضارات لا تحتاج الاستعطافَ والاسترحام فلن تعطيكَ الحياةُ والتاريخ ما لا تستطيع أن تنتزعه وتمتلكه أنت...
