آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

المحجة البيضاء

لقد شكلت سيرة سيدة نساء العالمين نموذجا عاليا للشخصية الإيمانية الرسالية ، مبرهنة بشكل عملي أن عظمة الإنسان تتمثل في تنمية فكره بالمعارف الحقة و رقي روحه بجماليات القيم الأخلاقية ، و ما سوى هذه المنهجية النورانية من تداعيات الكسل و الخمول أو التعلق بملذات الدنيا الزائلة و الافتتان بها ، فكل هذه السبل لا تناسب ذاك المخلوق المكرم بعقل يفكر به و يبصر به الطريق القويم و يفند التخرصات و الواهن من الأفكار ، و يتجنب به كل ما يشكل ضررا عليه ، فلم يخلق الباري عز و جل الإنسان ليصيب طاقاته و قدراته المودعة فيه بالضمور و الانكفاء ، بل جعل له هذه الدنيا ميدانا و سبلا يحقق فيها وجوده و يضع بصمة له تميزه بعد رحيله ، فالخمول و ضعف الإرادة ليس من سماته التي تفترض فيه مسلك النجاح و التفوق ، و ما أمامه من صعوبات ليست بحواجز تقعده و تعيده القهقرى بل تشكل تحديات تختبر قدراته الفكرية و إرادته ، و عليه بعد الاتكال على الله تعالى أن يغتنم فرصة الوقت و يستثمره فيما ينمي شخصيته في علاقته بربه و تكامل نفسه و رقيها.

فماذا يعنيه لنا ذاك التجلي المضيء في حياة الزهراء آ«عآ» - على قصرها - لينجم عنها تلك الدروس ذات المضامين العالية و التي تقدمها لنا سيدة نساء العالمين في محراب عبادتها و انقطاعها لخالقها في أجواء روحانية ترشح منها الأنس و الثقة به تعالى ، عبادة لا تعني طقوسا لا قيم تتضمنها تعود على النفس بالفائدة الحقيقية ، بل تقدم لنا مولاتنا آ«عآ» العبادة بخلو القلب من مشاغل الدنيا إذ قيمة لها أمام منحة إلهية لنا لنخلو بأنفسنا ذاكرين و مسبحين ، عبادة تظهر التعلق و الاتكال على الباري في تخل حقيقي من كل الأسباب المادية أمام مناجاة مسببها ، و قلب العابد السليم الذي يصفو من مشاعر سلبية تجاه أحد مهما كانت تلك المواقف الصادرة منه ، فمن طلب عفو الخالق فليتقرب له تعالى بالتجاوز و المسامحة لمن يخطئ في حقه ، فهل نحن لها و لما قدمته لنا من قيم و عبر متبعون ؟

و يحضر الإيثار و تقديم حوائج الآخرين في دعائها و عطائها ، فكما جادت بكل شيء و لم تؤثر حتى أعز شيء عليها كقلادة قدمتها لها أمها السيدة خديجة آ«عآ» و أعطتها لفقير يسد بها عوزه ، فكذلك تجلت طهارتها و عصمتها من الأنانية و تبلد الوجدان أمام حاجات الغير ، بتوجهها لباريها في محراب صلاة الليل بعد أن انفتلت من صلاتها ، داعية ربها أن يلطف بحال المؤمنين و يقضي حوائجهم فتدعو لهم فردا فردا.

أما النورانية في دورها التبليغي فكانت بما تقدمه من دروس الفقه و التفسير على النساء في بيتها ؛ لتكون الجناح الإرشادي الآخر لأبيها المصطفى آ«صآ» و بعلها المرتضى آ«عآ» ، و لتكون بذلك و غيره من أدوارها الرسالية حجة علينا تقيمها ، و ذلك بعدم تضييع الأوقات في اللهو و ما لا فائدة منه ، بل نتحرك في مدارسة العلم و الحرص على القراءة و التعليم و التدوين و نشره ؛ ليشكل حراكنا الثقافي و الأخلاقي محورا في الحركة التنموية المجتمعية الزاهرة.

و أما علاقاتها الأسرية مع زوجها و أبنائها فهي حقيقة بالبحث و التدقيق فيها ؛ لنستخرج منها لآلئ و درر نقدمها كدروس تعليمية و تدريبية نتعمق فيها كثقافة نأصلها و نتحلى بها لننعم بالاستقرار في العش الزوجي ، فلم تكلف يوما زوجها المرتضى ما لا يطيق في شيء من مستلزمات الحياة الضرورية ، بل كانت القانعة الزاهدة الراضية الرضية ، تتقاسم معه الأعباء ليشكل بيتها النوراني موطن السعادة و المحبة.