آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 3:17 م

أبي العابد في رجب

يَذْرو هَيَجانُ الرِّياحِ الغبارَ عن ذكرياتِ الماضي، فتنجلي غضةً طرية، وفي هذه السنةِ رياحُ شهرِ آذار بين الشتاءِ والربيع تأتي في شهرِ رجب. وبما أنني كبرتُ ولازم الكبر أن أرى المسافةَ الفاصلةَ بين الحياةِ والدين وبينَ الدنيا والآخرة بدأت تقصر، أخرجتُ كتاب تعاليمَ والدي، معلمي الكبير، في العبادةِ علني أعرف منهُ كيفَ أكون أقرب لله.

لم يكن والدي يقرأ من كتابٍ فيه ما يُستحب أن يفعله الإنسانُ ويكسب الثوابَ الأوفر، لأنه لم يكن يقرأ أو يكتب البتة، وربما لم يكن يحفظ غيرَ سورتي الفاتحة والتوحيد، ولكن والدي كان يقرأ في كتابِ ”الحياة والإنسان“. لم يكن في جبهةِ والدي مجل تركه كثرةُ السجودِ على التراب بل مَجَلَتْ يداهُ وثَخُنَ جلدُها من العملِ الشاق والذي يقول له إن الحياةَ كلها عملٌ واجبٌ لابد من إنجازه.

لو كان شهر رجب يأتي في شهرِ آذار كان والدي يرهبُ الرياحَ التي تهب بشدة لأنها لابد أن تخربَ ما بناه في سكونها من حظيرةِ صيدِ السمكِ في عرضِ البحر. كانت صلاته في الليلِ قرب الفجر ووضوءه ماءُ البحر البارد، تمتماتٌ ودعواتٌ كان يدعو فيها اللهَ أن يكون الصيد وافراً، ولا يعود خالي الوفاض. يفرح عندما يكون الصيدُ وافراً وتصيبه الكآبةُ عندما تجرف الريح ما بناه لأنه لا بد أن يبنيه عندما تهدأ العاصفة. لم يحتج والدي من يوقظه للعملِ أو الصلاة فموجُ البحرِ كان ميقاته الذي كانَ يسمعه مهما تغيرَ الميعاد!

تنتظر النخلةُ والزرع والدي في شهر آذار ليستأجرَ العمال، الكادحين من أمثاله، ويعتني بها رجاءَ أن يكون الرطبُ جنياً في شهر يوليو/حزيران ويخزنه للأكلِ في فَصلي الخريفِ والشتاء، ولا يعود للبيت حتى تغيبَ الشمس. لم أرى والدي يحضر كثيراً من المجالس ولكن رأيته ينامُ باكراً ويهب مع الفجرِ ويصلي ركعتين قبل أن تتجدد دورةُ الحياةِ في يومٍ آخر. والدي في شهر رجب هو ذاته في شهرِ شعبان أو شهر رمضان، متدينٌ لم يجادل أحداً في الدين ولم ينكر على أحد، يقرأ من كتابِ الحياةِ والإنسان الذي يحوي الوصايا: أن الدينَ لله والمعاملة للإنسان، فلا تغشه ولا تسرق منه، ولا تظلمه.

كتابُ ”الحياةِ والإنسان“ فيه: أن اللهَ لن يسألكَ عن الكثيرِ من الزوائدِ في العبادة ولكنه سوف يعاقبكَ على القليلِ من ظلم الإنسان، وأن الدينَ لازمه أن ينبعثَ ويمشي فوقَ الأرضِ عملاً وحضارةً وبناءً، مهما هبت الرياحُ واقتلعت الحظيرة، سوف نبنيها في اليومِ التالي. رياحُ الشمالِ القويةِ في الشتاء تهب أحياناً كثيرة وتعاند والدي، لكن بصيرته علمته أن العبادةَ هي في طلبِ الرزق وهي في البحارِ وفي المساجد، وأن الرزقَ من عند الله، والأهم من هذا أن يتدرعَ الإنسانُ بالصبر، ربما مرت ثلاثةُ أيامٍ دونَ أن يصطاد، وأحياناً يصطاد الكثير.

أنماط والدي في الدنيا كثيرون، فمتى كان الفقيرُ يقوم الليلَ ويصوم النهار، ومتى كان الفقير يترك عبادةَ الله في العملِ وفي الإنسانِ الذي لم يكن بينه وبينه عداوة أبداً...

مستشار أعلى هندسة بترول