آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

في حبال القانص؟

المهندس هلال حسن الوحيد *

رأيتُ في الستينَ سنةً من الناسِ الكثيرَ من الوفاء، ويبقى وفاءُ البشرِ لبعضهم مشروطاً بالتبادلِ والتماثل، ولن يكونَ فيهم إلا النادر ممن يفيَ دون شرط فالتبادلْ من صفاتِ البشر التي تملك العقول. ومن بدائعِ قصص الخيالِ في وفاء الحيوان الذي ليس له إلا الشعور دون العقل لبعضه ما ترجمه ابن المقفع في كتابِ ”كليلة ودمنة“ من وفاءِ الصحبة بينَ السلحفاةِ والغراب والجرذ والظبي الذين اجتمعوا في صحبةٍ على غديرِ النهر والمروج، وفحواها وبعض كلامها التالي:

اجتمع الغرابُ والجرذُ والسلحفاة في عريشٍ ذات يوم في انتظار الظبي الذي غاب عنهم،  فلما أبطأ عليهن أشفقن أن يكونَ أصابه عدوّ فقلنَ للغراب: طر فانظر هل ترى الظبي في شيءٍ مما نحذره. فحلّق الغرابُ فنظر فإذا هو بالظبي في حبائلِ القانص، فأجفلَ مسرعاً حتى أخبرَ الجرذ والسلحفاة. فقالت السلحفاةُ والغراب للجرذ: هذا الأمر لا يرجى فيه غيرك فأغث أخانا. فسعى الجرذُ سريعاً حتى انتهى إلى الظبي وقرضَ حبال الشبكة عنه.

وقبل أن يفر الجميع من القانص وافتهما السلحفاةُ فلامها الظبي خوفاً عليها من القانص أن يمسك بها فالظبي سوف يعدو، والجرذ يدخل الجحر والغراب يطير وتبقى السلحفاةُ رهينةَ القانص، لكن لم تهن الصحبةُ والوفاء على السلحفاة. قليلاً من الوقت حتى طلع القانصُ وقد فرغ الجرذ من قطع الحبائل فنجا الظبيُ وطار الغرابُ ودخل الجرذُ جحره. فلما جاءَ القانص إلى حبائلهِ رأى السلحفاة ولم يرَ شيئاً غيرها فأخذها وأوثقها بالحبال.

اجتمع الظبيُ والغرابُ والجرذ فنظرنَ إلى القانصِ وقد أخذ السلحفاةَ وهو يربطها بالحبال، فاشتد حزنهنَّ لذلك واتفقوا بينهم على حيلةٍ ليخلصوها وهي أن يذهبَ الظبيُ حتى يكون في مرأى القانص كأنه جريحٌ مثبت ويقع عليه الغراب كأنه يأكل منه. ويراقب القانص ليكن منه قريباً، فإذا نظر إليه القانصُ وضعَ ما معه من قوسه ونشَّابه والسلحفاة وسعى إلى الظبي. وكلما دنا من الظبيِ فرَّ عنه مرةً أخرى متضالعاً حتى لا ينقطع طمعه منه، ويفعل ذلك مراراً حتى يدنو منه، ثم يمُدَّ الظبيُ بالقانص على هذا النحو ما استطاع. أما الجرذ في هذا الوقت فهو منشغلٌ بقطعِ الحبال الذي تربط السلحفاةَ فتتحول السلحفاةُ ويعود الجميع إلى أماكنهم وصحبتهم.

فعل الظبي والغراب ذلك، وتعاونا واتعبا القانصَ طويلاً ثم انصرف وقد قطع الجرذُ حبالَ السلحفاة فنجوا معاً. فلما جاء القانصُ وجد الحبلَ مقطوعاً وفكّر في أمرِ الظبيِ المتضالعْ والغراب كأنه يأكل من الظبي وليس يأكل، وتقريضَ الجرذ لحبالهِ قبلَ ذلك فاستوحشَ وقال: ما هذه الأرض إلا أرض سحرة أو أرض جن،  وانطلق الغرابُ والظبي والسلحفاة والجرذ إلى عريشهنَ آمنات مطمئنات.

لو أيقنَ القانصُ فائدةَ التعاون لاصطادَ السلحفاةَ والجرذَ والغراب وبقيت حبالهُ سالمةً يصطاد بها اليومَ التالي، ولكنه الإنسان! آدم: لن تصطادكَ حبالُ القانص أبداً إن كان صديقك في وفاءِ الغراب والظبي والجرذ، فاسأل اللهَ أن تجودَ عليك بهم الدنيا ومتى ما جادت بهم كن لهم وفياًّ مثل السلحفاة...

مستشار أعلى هندسة بترول