آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

السلالم والثعابين - 3

بنيَّ: إن قصرت نفسي عن مقاصدهَا، فلم يكُ يوماً غير قصدي طِلابها، بَنيتُ لها أساًّ وأحكمتُ صُنعها، كما أحكمَ من يبني القصورَ بناءَها، فإن حِزتَ المعالي فأنتَ ورثتها، وإن قَصُرت باعٌ فلا تكُ من في غمرةِ الجهلِ قد باعها، متى طابَ أصلُ الفتى طابَ فرعهُ، كما وَرَّثت شبلاً أسودُ الغابِ قدماً طباعها، سنا برقٌ إذا أفحمت ليلي فأنتَ نورها، وإن غَرُبَتْ شمسي فأنت ضياءها.

تهاجر الطيورُ والحيواناتُ لأماكنَ أكثر أمناً وأخصب أرضاً، وأوفر صيداً، وهي في هجرتها تسير في اتجاهاتٍ تشكلت في جيناتها، تهاجر للمرةِ الأولى وتعيد ما قام به أسلافهَا في معارفَ مدفوعة بغرائزَ فطرية زرعها الخالقُ فيها. أما نحن البشر فتسري في عروقنا طباعُ وخصائص أجدادنا من حيث لا ندرك، خصائص الشكل وطباع التفكير والمزاج، فإما نحيل هذه الخصائصَ سلالمَ ترفعنا أو أفاعي تنهشنا.

بنيَّ: لا ضيرَ أن يولدَ المرأُ غنياً أو فقيراً، فالغنى ليس صفةً إيجابيةً ملازمة، كما الفقر ليس صفةً سالبةً لا تنتفي، إذ في عمري القصير رأيت فقراءَ وأغنياءَ انتقلوا من ضفةِ الحياةِ التي ولدوا عليها إلى الضفةِ الأخرى من المادة. ورُبَّ غنيٍّ تدثر برقائقِ الذهب وماتَ من البردِ في ليلةٍ باردة، وفقيرٌ بقي مشتغلاً ينقل الصخرَ حتى طلعت الشمسُ وجاءَ الدفء.

يحكى أن غنياً وحكيماً مملقاً اصطحبا في سفر، فلما جنهمَا الليلُ وكان الجوُّ بارداً فقالَ الغني: أنا سوف أتدثر في جلدِ البقر الذي حملته معي وأنام، وقالَ الحكيم: أنا سوف أنقل الصخرَ من التلةِ للوادي حتى يطلعَ الصباح. ولما طلع الصباحُ كان الغنيُّ قد ماتَ من البردِ وبقي الحكيمُ على قيدِ الحياة. لا شك أن بالمالِ تكون الحياة أبهى وأجملَ وليس بالفقر، فلا تطلبه ولا تمجده، وفي التاريخ كثيرٌ من الناسِ ورثوا المالَ وشيدوا به مجداً دامَ مدة طويلة. وفي التاريخِ فقراءَ عاشوا صعاليكَ باختيارهم وهدموا كل مجدٍ طالته أيديهم. في علم الحسابِ لو‏ ضربنا عدداً في نفسهِ عدةَ مرات، وسمينا العمليةَ الأسس «القوى» فإن ناتجَ تكرار «الصفر» سوف يبقى صفراً، وإن أعطيناهُ من القوةِ ما لا يتناهى. إن خانك المالُ وبقيتَ صفر اليدين، فاستأنس بالقيمِ والأخلاق ولا ترضى أن تبيعَ نفسكَ في سوقِ النخاسة.

بيتنا الذي نولد فيه وأسلافنا ربما كانوا هم طلائع الثعابين أو السلالم وزرعوا فينا بذورَ الفشل أو النجاح، حتى نستقل بذاتنا، ومن بعدها نحن من يكسر نيابَ الأفاعي ويصنع منها سلماً للرقي، أو نزيد من حدةِ سمومها. عندما تكبر ويكون لك أبناء لن يكون لك عذرٌ في أن تورثهم العاهاتِ الفكرية فإن فعلت فأنتَ ورثتهم حقلاً تسكنه الأفاعي. أفن حياتكَ في تربيةِ أبنائك، آملاً أن يكتسبوا يومًا ما يحتاجونه للتألقِ في حياتهم معتمدينَ على أنفسهم وذواتهم  ليكونوا أكثرَ إبداعًا، في روحٍ يحسبون أنها تستطيع التحليقَ في السماء.

وعندما تصل إلى قممِ الجبال تذكر أن أمكَ وأباكَ هم من جاعوا لتشبع، ورتَقوا القديمَ من اللباسِ لتلبس الجديد، وسهروا لتنام، وكانوا يبتهجون بك عتدما ينظرون إليك ترتقي السلالم، سوف يأتي يومٌ إن عشتَ بعدهم تنكسر تلك السلالم من تحت قدميك، وكثيرون هم من كانوا السلالمَ التي دست عليها وارتقيت، فإن لم تكن سلالمَ لغيركَ فلا تكن حيَّةَ الوادي.

مستشار أعلى هندسة بترول