آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:01 م

نفحات شهر رجب

شهر رجب يعمل فيه المؤمن على تعزيز خطين مهمين في تكامل نفسه وبلوغها درجات عليا في الورع والخشية من الله تعالى، العامل الأول هو: - علاقته بالله تعالى والتي قد يشوبها بعض الفتور أو الجفاف، ويحتاج إلى فرصة لتقوية تلك العلاقة وتوهج اليقظة الروحية عنده، والعامل الآخر هو: - قلع جذور الغفلة القلبية وما نبت فيه من انشغال بزخارف الدنيا ومظاهرها السرابية الخداعة عن محراب الطاعة.

فالشخصية الإيمانية أمامها الكثير من التحديات والأعداء ما ظهر منهم وما بطن، وتلك الفطنة والنباهة تسعفه في الوقوف على أرضية الحق الصلبة، ثابت الجنان لا يزيغ ولا ينزلق إلى طريق الانحراف والفساد الأخلاقي، وشق طريق التقوى ليس من السهل القيام بخطوات فيه وهو لا يحمل بصيرة واضحة وفاعلة مفعمة برؤى التوحيد والاستقامة، ولا يحذوه الأمل بالاقتراب شيئا فشيئا من خلال نهجه العبادي من حب الله تعالى وتجنب مواطن سخطه.

من يستغرق في شهواته وتحيط به زخارف الدنيا ينصرف قلبه نحو تلك المظاهر، بل الأنكى من ذلك أن تكون صلاته ذات بعدين، ففي الظاهر صورة امتثالية لأوامر المولى وأما باطنها فمحطة للتفكير بأعماله ومشاكله، فإذا فرغ منها تساءل عن لباس التقوى أين هو ليتدثر به، يقدم على ربه ويؤدي طقوسا جامدة لا نبض فيها من توجه القلب واستحضار الفكر الواعي، فالعبادات لها مضامين تحرك وجدان المرء نحو منابع التقوى واليقظة التي تبعث الحياة الإيمانية فيه، فالمنشغل الساهي بأحوال الدنيا وأحداثها يغفل عن نفسه ولا يمكنه أن يبصر نورانية ونفحات التقرب من الله تعالى، ولا يتحصل على ما يعده ويهيؤه للقاء الله تعالى في يوم الحساب.

القرب من الله تعالى نستدل على استيلائه وتغلغله في نفوسنا من خلال الأنس بمواطن الذكر وتلاوة القرآن الكريم والوقوف بين يديه تعالى في محراب العبادة، ويظهر ذلك النور الإيماني على جوارحه من خلال خطاه الحثيثة في ميادين العمل الصالح والتعامل الحسن الرفيع مع الناس، ووجل قلبه من التقدم نحو المعصية والاعتداء على حقوق الناس أو الاستجابة لداعي الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، فعقله وأحاسيسه تستحضر الوجود الإلهي ورضاه قبل أن يقدم أو يجفل ويتوقف عن أي فعل وكلام، فدائرة الحرام يتحرز من الاقتراب منها فضلا عن تسويل النفس باقتحامها والخوض فيها.

وأما العامل الآخر وهو التخلص من غفلة القلب وتبلد الوجدان والأحاسيس، ففي شهر الرحمة الواسعة تبرز فرصة ثمينة للتخلص من ظلمة الروح التي نتجت عن انصرافه نحو المظاهر المادية والاهتمام بتحصيل شيء من ملذاتها وزخارفها، فغدا لا يدير بالا لمصيره الأخروي، بل وتبلدت مشاعره فلا تؤثر فيه المواعظ والعبر المخوفة من مصير العصاة والمسيئين وما يلاقونه في جهنم من ألوان العذاب، فلا ينزجر لنصح أو توجيه يقرأه أو يسمعه بل اكتفى بقشريات وطقوس لا تأثير يذكر لها على وجدانه، فلا تردعه عن التمادي والتجرؤ على محارم الله تعالى.

يا لخيبة الآمال لمن عمر دنيا فانية سيرحل عنها خالي الوفاض إلا من قطعة قماش تلف بدنه «الكفن»، ونسي وتغافل عن الاجتهاد والمثابرة لإتيان الباقيات الصالحات، فانشغل بالنزوات والشهوات متنقلا بينها حتى أورثته عمى البصيرة وفقدان المناعة والضعف والانهزام النفسي أمام هتاف الخطايا، أما آن له استثمار هذه المحطة العبادية في شهر رجب لإيقاظ قلبه وجوارحه عن تعاطي زخارف الدنيا؟!