آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

من يناغي الطفلِ فينا؟

تقترب دورةُ العمرِ من تمامها، ونعود في مشاعرنا كما كنا صغاراً. نولدُ في تمامِ العاطفةِ بين الفرح والبكاء ولا عقلَ بينهما سوى ما تمليه الرغبة والخوف ثم نندفع في أزقة الحياة، العقلُ عنْ يميننا والعاطفةُ عن يسارنا، نصطدمُ بهذا مرةً وبتلكَ مرات، ساعةً نُغلبُ فيها العقلَ وساعاتٍ نُغلبُ فيها المشاعر.

نكبر وتعود أحاسيسنا وعاطفتنا هشةً مثل الزجاجِ الذي تكسره نسائم الربيع، ويظن الصغار أن هذا قسوة أو خروجٌ عن كمالِ العقل الذي قد تم، ولكنه دليل اكتمالِ دورة الحياة والعودة لمشاعر الصبا الرقيقة. لايدرك من لم يصل هذه المحطةَ في الحياة كيف يعود الكبيرُ صغيراً يحلم بأن يزور خاله أو عمه أو خالته ولا يستطيع، وهو الذي كان يطير من البهجةِ عندما يراهم في صغرهِ وهم عادوا عراجين بعدما حملوا ثمارَ الحياةِ وتعبها سنينَ عديدة في قوتهم وأحاسيسهم.

يسقط الناسُ كلَّ حينٍ مثل أوراقِ الخريف، وبعدما يسقطون يصطف كل من يعتقد أن في قلبِ الميت ذرةً من الحب لهم في المناحات، ولو عادَ الميتُ مرةً أخرى سألهم: من أنتم، وهل كنتم تعرفوني قبل الموت؟ تصدنا المشاغلُ وتوافهُ الحياةِ عن أن نذكر من نحب مرةً واحدة، نسمعُ صوته فيها ونقول له: لا يشيبُ ولا يخيب من له عشيرة.

تحمل أوردتنا وشراييننَا الدمَ والغذاءَ وتبثهَا في جسدنا، ويحمل قلبُنا المشاعرَ في ذاتِ الوقت يوزعها، فإن كانت المشاعر قويةً استقوى بها جسدنا على كيدِ الحياةِ وضعفها، وإن كانت خافتةً ذَبُلَ ومات. كلما ألمسُ يد ابني الصغير الناعمتين، أسأل نفسي: عندما يكبر الصغير هل سوفَ يلمس يدي عندما أكبر؟ هل سوفَ يسأل أين هو؟ أم فقط الكبار هم من يلمسونَ ويسألون! في صوتِ الكبار الأمان والدفء عندما يحكونَ الحكايا للصغار، وهم يحكونها يضعونها أمانةَ حب وعاطفة عند هؤلاء الصغار، يُكبرونها ويُنمونهَا يحدوهم الأملُ ألا يصرفونها، ولكن متى ما جاءَ وقتُ إستخراج المشاعرِ الدفينة فالصندوقُ مليءٌ بها.

يسكن بين جوانحنا القلبُ مملوءً بالدماءِ الحمراء والزرقاء ينبض ويضخ الدمَ منه إلى جميعِ أجزاءِ الجسد، ذاك القطعة الصغيرة التي نحن نتهمها بالحب والعاطفة، أما هناكَ في جمجمةِ رأسنا فيسكن المخ، سلطانٌ حاكمٌ في مشاعرنا وعقلانيتنَا، هذان يتصارعان وخلاصة حالةِ الصراعات بين العقل والعاطفة التي نعيشها جميعاً أنه لا ولن ترتقيَ الأممُ والشعوب قبل أن ترتقي مشاعرها، وأكاد أجزم أن العاطفةَ تسبق العقلَ وتدوم مع العقل وتبقى بعد العقل…

عندما يبكي الصغارُ من ألمِ الهجرانِ في بكاءٍ يصم آذانَ الكبار، يأخذونهمْ ويناغونهم ثم تعود أحاسيسُ الأمان إليه. ولكن عندما يبكي الكبار وتسيل دموعهم في صمتٍ أنهاراً وغدراناً، فليس لهم إلا الغرباء وكأنهم غرباءُ في هذا العالم! لم تترك المدنيةُ الحديثة عذراً لمن هم في الأدغالِ أن يحملَ الأثير نسائم أصواتهم لمن أحبوا، فكيف بمن يسكن المدن والعمران، فإن صوتَ وصورةَ من يحبون صار "أقرب من حبل الوريد".

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
1 / 4 / 2019م - 3:02 م
أتم الله عليكم دورة العمر في سعادة ومحبة وعافية ، وزاد الله هذا القلم من جميل الكلام وعميق الحكمة ، كل الشكر أستاذي الفاضل ..
مستشار أعلى هندسة بترول