آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

أسيرُ الصحراء

مثلت لصاحبي أحوالَ الراحلِ في الحياة في ساكنِ الصحراء الذي يشد أقتابَ الإبل عندما يعشوشب الجانبُ الآخر البعيد عنه ويُمرع، في ذات الوقت يَحتبس المطرُ ويجدبُ الجانبُ الذي هو فيه. ساكنُ الصحراء مثل القطا الذي لو تُرك لغفا ونام، لا يجد المتعةَ في شدِّ الرحال والجد في السير الحثيث للبحثِ عن جديدِ الأرض، ولكن يلاقي المتعةَ فيما اخضر من العشبِ والكلأ، ويبقى أسيرُ الصحراء بين عناءِ تنقلاتها وبين البهجة في جمال سعتها وهدوئها وقلة مطالبِ الحياة فيها، الأرض كلها والسماء ملكه. شد الرحال يجعل من البدوي قوياً صبوراً على البلاء وقنوعاً بما يستطيع حمله من المتاع، يتقلب مع أحوال الدنيا مثل تقلب ألوانِ الأرض التي يدوسها.

مهلاً: أليس كلنا بدوي في الدنيا، نطلب العشبَ والراحة، نجدها قليلاً ثم ترحل عنا أو نرحل عنها؟ ولكن عناء البحث يجعلنا مبدعين ويرينا في كل جانبٍ مظلم مسحة من الجمال والنور. يجدنا المرض ونكرهه، ومن ذا يحب قيودَ المرض؟ ولكن الأمراض دفعتنا لاستكشاف الدواء. كرهنا الفقرَ والخسارةَ والعناء، والمشقة، وكلها أوجدنا لها جذراً في أنفسنا كشفَ عن حل معادلتها الرياضية وجاء العلمُ بكل ما هو جديد، حتى ذاك البدوي الذي كان يشد الرحالَ كلما جاءَ الربيعُ صار تنقله أقلَّ عناءً، وبُعْدُه أقل غربةً وقسوة.

لو كانت الحياة مثل ساكن المدن، في دوام رغد العيش لتبلدتْ أحاسيسنَا، ولم نجد الحاجة لاكتشاف وصنع ما هو جديد، ولسوف يقتلنا وخز الأبر التي تخترق أجسادنا الغضة. يرحل المالُ ثم يعود، يطير الفرحُ ثم يحط، والتعب ثم الراحة. بعض هذه الرحلات والتنقلات لنا فيها شيئاً من الإختيار وبعضها هي دورة الحياة التي لا بد أن تتجدد ونحن وقود دورتها.

لكن من أقسى النقلات تلك التي بين الصحة والمرض، إذ لا زاد ينفع السائرَ في صحراءِ الدنيا سوى القوة على تحمل تعبها ومشقتها. لا ينفع المريض أطنان الذهبِ والقصور إذا ما قصرت رجلاه وعجزت همته، وتبقى الصحة هي أجمل الرحلات في الحياة التي لا يعدلها شيء، بها يأتي الخيال وبها يأتي الإبداع وبها نستطيع مواصلة السير في كثبان الحياة.

مستشار أعلى هندسة بترول