آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

زمن الندرة

عقيلة آل حريز *

ما إن يلمسنا موقف جميل حتى نشعر أن العالم به كم كبير من الدهشة الغرائبية الكثيرة.. فنظل مأخوذين بها زمنا ومن فرط ذلك، نظن أن العادي والمفروض صار أشبه ب «الوااااو» لكوننا اعتدنا أن السائد هو العكس تماما في زمن الندرة..

قبل اسبوع بالتحديد جاءتني رسالة من رقم مجهول يلقي عليّ التحية ويسألني مستفهما إن كنت صاحبة الرقم فعليا أم لا. ولما أن أجبته بالإيجاب عرفني بنفسه مباشرة وأخبرني أنه شخص سأل عني كثيرا مسبقا فلم يهتدي لي.. قال إن اسمه“وحيد" وكانت لديه مكتبة قديمة تم تصفيتها وأن فيها متعلقات من بعض اصداراتي السابقة قبل 13 عاما وأن لي في ذمته مبلغ بسيط، وهو أضاع طريق الوصول لي بسبب تغير الأرقام على مدى هذه السنوات، كما أنه عثر على طريقة الوصول لي صدفة عن طريق اعلان لمحاضرة لي ستقام في فترة قريبة أرسلها له أحد الأصدقاء فطلب رقمي منه مباشرة..

من كثرة دهشتي لم أعرف ماذا أقول له بالضبط، فهذه السنوات التي مضت أنستني الأمر كله فالناس فيها تحيا وتموت فكيف سألتفت لبعض الكتب التي وزعت بالمكتبات الكثيرة ولن يهتم لها أحد غالبا!..

كان موقف أمانته محطة دهشة لي فمن يا أستاذ وحيد سيتذكر أو حتى إن فعل سيهتم بعد كل هذه السنوات..

قال: هذا حق ويجب أن يعود لأصحابه ويجب أن تفرغ ذمتي منه..

ملأني موقفه سعادة لا توصف.. أن نقبض بأيدينا على معاني الوفاء والنبل في زمن عجزنا عن توفيره ولو بفواتير مضافة، فهذا أمر مستغرب، لا لكونه ليس طبيعي أو افتراضي.. بل لشحته وندرته فعليا..

قلت له: أنا أشكرك فقد ملأت صباحي هذا بطاقة ايجابية وجعلتني أشعر أن مراحل العمر التي نقطعها مليئة بمعاني الخير والزهور التي جفت في أرضنا قياسا لما نشاهده كل يوم، أصر على تحويل المبلغ لي في نفس اللحظة لينجو بنفسه من متعلقات قد تثقل صفحته..

أتيت ابحث في جيب المواقف عن أمور كثيرة ضاعت بين الناس وتمت خيانتها أو الانسحاب منها..

إن كان الاستاذ وحيد اهتم بمتعلقات الأمانة وأبى بعد كل هذه السنوات الا تسديدها فماذا عمن خذل معاني مجملة في الأمانة وقتلها متعمدا.. ماذا عن الذين انتهكوا الحقوق وخذلوا الرفاق وخانوا العهود، واستمرأوا الاستعداء، وقطعوا الطريق على النجاحات.. ماذا عمن وهبه الله حق الصحبة والاخوة وغدر أو كفر بها.. ماذا عن الذين افترضوا معادلات جائرة في حق أناس جمعهم بهم معروف وظلموهم بوهم أو جناية وحاكموهم بها ولم يمنحوهم حق النفي أو الدفاع.. ماذا عمن فتحوا لنا قلوبهم وبيوتهم وادخلونا في عالمهم واطعمونا من قوت قلوبهم وخذلناهم وانكرنا حقوقهم وسلبناهم حالة الاستقرار التي كانوا يحيوها قبل مجيئنا لهم.. أليست كلها أمانات محاسبين عليها..

ماذا عمن ائتمنوا على علاقات وحقوق ففرطوا فيها لقاء لا شيء، ودخلوا صراعات ومعارك وهمية حرقوا فيها المعروف وقطعوا الأرحام ولم يتوانوا للحظة عن كيل الأذى أو محاسبة أنفسهم ومراجعة مواقفهم لعلهم يكتشفون فداحة ما حصل فيعودوا عن موقفهم، بل أخذتهم العزة بالإثم فاستمرأوا الشر وتوغلوا في الإيذاء وأمعنوا في طغيانهم..

ماذا عمن حضر حرائق مستعرة تشتعل بغضب صارخ فتأكل أخضر الخير ويابسه لتبقي رماد العلاقات وجحيمها وكان بيده إيقافها بكلمة أو يتدخل بموقف ليوقف هذا الاستنزاف النفسي، أو حتى التخفيف برفض تام له ومجابهة إن تطلب الأمر، فكف عن التدخل بإيثار السلامة أو دعوى أللاشأن لي.. أليست هذه أمانة مناط بها موقفه ومتعلقة بصفحة حسابه..

الأمانات حقوق ومصالح وليست كلها ماديات فحسب، الأمانات علاقات طيبة ومكتسبات ومواقف، الأمانات سلامة الداخل والخارج معا..

الأمانات هي دوائر زمنية حين تسرقنا فترة ما وتطحننا لظرف أو طارئ شر، أو تبدل أو تحول أو وهم واعتلال مزاج وتغير، ثم يحصل أن يعيدنا الزمن لدولابها كفرصة اضافية للنجاة، فهو يمنحنا فرص التصحيح لإحقاق الحقيقة وتأدية الواجب وتبرئة الساحة، لا لنكرر ذات الفعل بأساليب أكثر اعوجاجا وتعنتا.. وكأننا نتعمد الإساءة..!

الأمانات قيم سامية في التعامل والتعاطي وفي الخصام والرحيل.. هي معاني تشمل إعادة الحقوق لأصحابها.. الحقوق المادية والأدبية معا.. جبر الخواطر واصلاح الكسور التي نتسبب فيها بالإيذاء والحزن للناس الذين نتعامل معهم أو نؤذيهم سواء قاصدين أو رغما عنا..

من تراه بعد عشر سنوات أو 13 سنة أو حتى أقل أو أكثر يحتفظ بصورة طيبة لتاريخ مواقفه مع البشر ويراجع حساباته بعملية بسيطة ويبحث عن متعلقات ذمته ليعيد الأمور لنصابها قبل أن يغادر هذا العالم ويصبح بين يدي من لا تضيع عنده الحقوق ولا تقلب الموازين، لينجو بعد أن تستهلكه تفاهات الحياة وزوائفها، مكتشفا أنها زوائل لا قيمة لها، من سيفعل وكم في عمره من زمن يصحح بعض الأخطاء ويجبر فيه الكسور..؟!

شكرا للأستاذ وحيد، فهو وأمثاله يجملون عالمنا بصحو أخلاقهم، ويمنحونا نوعا من الطمأنينة، في زمن عجز كثيرا عن ترتيق الشقوق المعنوية والمادية التي بات يصعب علينا حصرها، حتى وإن ظلت أشبه بدين يقيد أصحابها بعدالة السماء..

قاصة وأديبة وصحفية سعودية «القطيف»