آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:19 م

نفحات من المناجاة الشعبانية

فَاقْبَلْ عُذْرِي يا أكْرَمَ مَنِ اعْتَذَرَ إلَيْهِ المُسيئون» «المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين ».

ومضة وعي بسوء الحال الذي وصل إليه العبد بما اقترف من سيئات، يستشعر حينها بعظم ما سببه بمعاصيه من مجانبة تحنان الرب الجليل، فأي حال أسوأ من مقابلة الكريم المتعطف علينا بنعمه بالجحود والنكران المتمثل بالإساءة وارتكاب المعصية، أنين الروح المتيقظة يضج بين حناياه لقبح ما جناه، ولا مخلص له إلا بالرجوع إلى الله سبحانه بالتوبة والندم الحقيقي.

الإنسان السوي إن ارتكب الخطأ أو تجاوز على غيره فإنه يبادر إلى تصحيح ومعالجة الموقف، وذلك بإظهار النية الحسنة وعدم الإصرار على الخطأ فيقدم اعتذاره طالبا المسامحة والصفح عنه، فكيف بمن أساء في حق المنعم المتفضل وفعل ما تم تحذيره منه بعدم الإصغاء لصوت الشيطان وتسويلات النفس الأمارة بالسوء، شعوره وضميره المتيقظ ينبهانه إلى جسامة ما ارتكب فلبغادر إلى ضفة سبيل الصواب في مثل هذه الحالة، فاستصغار الذنب وتصويره كأمر بسيط لا يستحق التوقف عنده وإن تكرر لهو طريق الهلاك، واستعظام الأمر حتى تصاب النفس باليأس والتحطيم والإحساس بمغايرة طريق الصالحين فما هناك من منجى كذلك سبيل هلاك، ولكنه بث الشكوى إلى متولي أمورنا والعارف بخبايا نفوسنا ومواطن ضعفنا، باديا بأولى خطوات التصحيح في علاقته بربه من خلال الاعتذار وإبداء الندم على ما صدر منه، فما وقع منه لم يكن بمناددة للقوي القهار أو استشعار لقوة فينا أمام ذي القدرة المطلقة، ولكنها غلبة الشهوة والتخلي حينئذ عن حاكمية ومرجعية العقل الواعي والمدرك لعواقب الأمور ومآلات المعاصي المتتالية، فالذنب الأول فتح طريقا للشيطان للسيطرة على حواسه وعقله وقاده نحو دهاليز التجري والغي والطغيان، والمعالجة في بداية الأمر ستكون سهلة بالنسبة له قبل أن تتمكن المعاصي من كل مفاصل وجوانح نفسه واستيناسه بها.

والاعتذأر ليست بلحظة ندم مؤقتة يبدي فيها مشاعر الانكسار والتأثر وبعدها تذوب تلك اللحظة الجميلة للإنابة، ولكنها استعداد للمستقبل بمحاسبة النفس والتنبه من محطات الشهوات ومقاومتها بالزاد الروحي الإيماني، والذي يمده بقوة ممانعة إن واجه الإغراء والتزيين والدعوة إلى الاقتراب من دائرة المحرمات.

ومن عوامل اجتراح السيئات ضعف الإرادة المقاومة للتفكير الأهوائي والشهواتي والذي يغلق بصيرة المرء ويسيره كالأعمى لا يدرك مخاطر ما يترصده من مهالك كقسوة القلب وموت الضمير وفقدان الحساسية تجاه المعصية، والاعتذار الحقيقي هاهنا يكمن في العمل على تقوية إرادته بأجواء العبادة والخلوة مع النفس وانفتاحها على مشاهد يوم القيامة الرهيب، فلا يعينه على استشعار خطر الذنوب كتصور الوقوف بين يدي المحكمة الإلهية ليحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فليقف أمام مرآة النفس ويخاطبها بصوت التقريع إذ تخاف من رؤية الآخرين وهو يمارس المخالفة، فلماذا لما تشعر برقابة رب العالمين ورؤيته تعالى له في مثل هذا الوضع المؤسف؟!

والاعتذار إلى الله تعالى من الإساءة عزم على مجانبة الذنب وأسبابه مستقبلا، وذلك أن اتخاذ القرار بعدم العودة إليه دون قطع العلاقة مع المسبب له إنما هو استهزاء بالنفس وقرار لا يأخذ صبغة الجدية.

والاعتذار من الذنب شعور ننميه بالتضرع إلى الله تعالى والانفتاح على محراب المناجاة والدعاء، فالقلب المتلوث بآثار الذنوب اسودت صفحته ويحتاج إلى تنقية، ولا يصفيه كالبكاء على النفس الناجم عن التدبر في معاني فقرات ومضامين الأدعية المأثورة، فيعود إلى ربه بقوة إيمانية تعينه على الاستقامة والثبات، فأثر الاعتذار الحقيقي يبان على سلوكه بتجنب المغريات الشهوية وبالانطلاق في ميدان الأعمال الصالحة.