آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

حكايا الراحلين

يحكي الراحلونَ حكايا يحفظها من يتقاطع معهم في جزءٍ من التاريخِ ومتى ما انتهت ذاكرةُ الأجيالِ صارت الحكايا مثل قصائدِ المعلقات، يستلذ بها من يسمعها أو لا يكترث بها وفي كل الأحوالِ لن يذوق حلاوةَ أو مرارةَ الساعاتِ التي عاشها الشاعرُ الذي حاكها. نحن والحياة مثل ذاك الذي يقطع النهر، يجد حلاوةَ العبور فقط لأنه انتصرَ على غضبِ الماءِ وطاف بسلام، ويعيش الشك في قدرته على العبور، والخوف من المستقبلِ في العيشِ على الضفةِ الأخرى.

حكايا شظف العيشِ في شهرِ رمضان ليست استثناءً من قاعدةِ جمال الذكرى بعد مرورها وقسوتها حين كانت. كيف كان شهر رمضان يلاقي الناسَ في أشهرِ الصيف ولم يكن لهم ملجأ من لهيبِ الجو غير ترطيب ملابسهم بالماء، وكيف كانت النساء يلهثن في إعدادِ ما استطعنَ أن يطهينَ في حماوةِ القيظ من طعامٍ على نارِ الحطب كُنَّ يستحققن أكاليلَ الغار على إنجازهِ قُبيلَ مغيب شمسِ كل يومٍ من شهرِ رمضان. ما كانوا يعدون من طعامٍ في ساعات ربما لا يحتاج اليومَ سوى دقائق دون ذاك الجهد والعناء!

في شهر رمضان كان الراحلونَ يعدون لركوب مطايا الحج في رحلاتٍ تدوم شهوراً، ربما عاد الجميع أو بعضهم منها ودفنوا من ماتَ منهم في الطريق. ولا عجب من يقرأ اليومَ تراثَ الدعاءِ في شهرِ رمضان تمر عليه الدعواتُ بالحج وتمامه، وذلك بالإضافةِ لانعقادِ نطف النياتِ بالحج في شهر رمضان، يكون الداعي منطلقاً فوق أقتابِ الإبلِ يجد السيرَ في الصحاري نحو رحابِ الله في البيتِ الحرام. أما اليوم فلا إبلَ ولا أقتابَ ولا أشهر في الطريق، بل رحلاتٌ متعة في أيامٍ وليالٍ قليلة.

لم تكن المساجد ودور العبادة التي يرتادها المصلونَ الصائمونَ كما هي اليوم، إذ لم يكن فيها سوى البساطة وقلة الراحة للعاكفينَ والمصلين، أمكنةٌ صغيرةٌ وضيقةً لكنها تكبر وتتسع لكل المصلين فيها. جاءت المدنيةُ وصارت دورُ العبادةِ أجمل وأبهى من بيوت أغلب مرتاديها في الفرشِ والنقوش والسعة والراحة ومآدب تشبه مآدبَ الأعراسِ في كل يومٍ من أيامِ شهرِ رمضان.

انتهى شظفُ العيشِ في كثيرٍ من المجتمعاتِ أو كاد! وأصبح التغير مطلوباً من الإنسانِ أن يرتقي في هذا التغيير ليكون جزءً من الجمال  وأن يجد ذاته في الإيمان بالله والقدرة على صنعِ التاريخ والتكامل مع أخيه الإنسان أينما كان، وأن يأخذ العبرةَ من التاريخ عندما يُسدل الستارَ على نهايةِ حقبةٍ والبدء في غيرها...

مستشار أعلى هندسة بترول