آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

غير رزقك ما تحوش

ياسين آل خليل

لقد أمضيت معظم سنين عمرك جريًا من هدف إلى آخر دون أن تتوقف، ولو لاستراحة محارب. أنهيت دراستك الثانوية، بعدها الجامعية، لتبدأ مشوارك العملي، تزوجت وأنجبت، لكن بنفس الطريقة الحياتية من السرعة، وكأن هناك من وحش يلاحقك ويحاول أن يغتنم فرصة تباطؤك، لينقض عليك ويلتهمك.

أنا لا أعلم عن أجندتك الخفية التي تعمل من خلالها، لكن بخبراتي الحياتية المتواضعة، أرى أنك حققت معظم طموحاتك. تعلمت وتزوجت وأنجبت، وها أنت في منصب وظيفي مرموق، تحقق دخلًا ممتازًا يكفيك وأكثر. أنت تقريبًا خضت كل المعارك التي أردت خوضها، ونجحت في أحسن تقدير في كل شيء جربته أو لامسته يداك، مستبعدا فشلك في الجلوس لتأخذ قسطًا من الراحة أو لتفكر مليًا إذا ما كانت وجهتك سليمة أو أنها تحتاج إلى المزيد من التمعن الإبداعي الجاد، وقليل من الحكمة.

أخي في الإنسانية، ما تفعله هو أمر يخصك وحدك، وليس لأحد كان من كان أن يتدخل فيه طولا أو عرضا، ليغير من نمط حياتك. لكل امرء رؤيته ومنظاره الخاص به من كيفية الحياة التي يعشقها، هذا من زاوية، أما من زاوية ذلك الناقد، الذي لا يتعرض لأحد بعينه، فمن حقه أن يوضح وجهة نظره لقرائه ومستمعيه، ودون تدخل مباشر، لكل فرد كامل الحرية في أن يأخذ بها أو بما يراه شخصيًا مناسبا له.

من وجهة نظري، وربما أجد من يشاركني الرأي، أنه في وقت ما في هذه الحياة القصيرة التي نحياها، علينا أن نتوقف بعض الوقت، وأن نُقَيّم كل ذلك المشوار الذي قطعناه، بسلبياته وإيجابياته، ومنه نتخذ قرارًا إما بتكملته بنفس الوتيرة والخُطى، أو أن نسلك اتجاهً آخر، يعيد لنا بعضًا مما فقدناه كل تلك السنين التي مضت.

أنا شخصيا، لم أعد مهتمًا، بعد الآن، بالتعجيل بإنجاز ما لم أنجزه. أريد أن أستكشف ما حولي وأتناول قهوتي في سكينة وهدوء، بعيدًا عن كل بهارج الحياة وإلهاءاتها. أرغب في أن أعطي نفسي مساحة من الوقت والحرية، لأستمتع بكل لحظة أعيشها. كما أني أيضًا ينتابني الشغف لأن أعمل شيئًا مختلفًا، عما كنت أعمله في الأربعين سنة الماضية. حقًا، لما العجلة.. وهل بقي هناك من العمر ما يمكن أن تستثمره في شيئ ذا قيمة معنوية، إلا ركض الوحوش الذي أتعب الجميع، واستهلك الكثير من قواهم الجسدية والنفسية!

يمكنني، دون منازع، أن أحقق المزيد من الإنجازات، لكن عندما أنظر إلى الوراء، فإني أنظر بعين التردد والخيفة. أتساءل، ما هي تلك الإنجازات، وأيها يتفوق قيمة على أمور لم أحسب لها حساب في الماضي، من أشياء معنوية، هي في الحقيقة أكبر قيمة من جميع الإنجازات التي يحلم بتحقيقها السواد الأعظم من الناس، والتي لا تتعدى المنصب والموقع المالي المرموق وكفى.

سؤال مهم للغاية، أتوجه فيه إليكم، هل سبق وأن توقفتم يومًا لتسألوا أنفسكم، لماذا كل هذا الجري، ألا آن له أن يتوقف؟ ماذا عن عقليتنا التي لم يعد لها نصيب في الحاضر، لأن همها طغى عليه المستقبل، والحاجة الماسة للوصول إلى هناك بسرعة البرق، وقبل أن يصل الآخرون. ماذا عن تلك الثقافة التي يحاول البعض تحويلها إلى بروتوكول حياتي وإطار يحدد مسار حياتنا اليومية، وهي ثقافة أن الوقت هو المال، ولا شيئ قبله أو بعده. هل نحن كأفراد في المجتمع نتداراس ما يُطرح علينا من أفكار، أو أنه لم يعد لدينا ما يمكننا أن نفعله أو نثري به ساحتنا من علم تعلمناه، وتجارب عديدة قد اكتسبناها وربما حان قطافها. الإمام علي يقول ”وهل لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت“. وفي الأخير تفكر في المثل الشعبي ”لو تجري جري الوحوش، غير رزقك ما تحوش“.