آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 5:36 م

جري الوحوش

ياسين آل خليل

بالرغم من التخطيط والحسابات والجدولة، إلا أنه مع ازدياد المهام الحياتية وتزاحمها، يعتقد الكثيرون أنه لا يوجد هناك ما يكفي من الوقت. صحيح أننا مع تقدم التقنية، أصبحنا ننجز بعض أعمالنا على هامش ساعات العمل، بدفع الفواتير الكترونيًا، ومتابعة بعض الأخبار التي تهمنا، والرد على رسائل البريد الإلكتروني، إلا أننا ما زلنا نمارس حالة الجري دون توقف وعلى مدار الساعة، منشغلين بملايين الأشياء التي تلاحقنا ولا يبدو أن زخمها سيتراجع، فماذا عسانا فاعلين؟

فقط راقب السرعة الجنونية التي يقود فيها معظم الناس شيبًا وشبابًا مركباتهم هذه الأيام، غير عابئين بالسرعة المحددة لهم، أو واضعين قيمة للأرواح التي تُزهق في كل لحظة جراء تلك اللامبالاة الكارثية، ودون أن يرف لهم جفن. يتساءل المرء، هل أصيب هؤلاء الناس في بصرهم وبصيرتهم، حتى كادوا لا يفقهون أن هناك سرعة محددة من قبل المرور، عليهم اتباعها. أما المستبصرون من القوم، فهم يفقهون، بكل تأكيد، أن تلك العلامات الإرشادية على امتداد الطرق السريعة لم تثبّت للزينة، ولا هي مجرد اقتراح لا يُلزم أحدًا التقيد به.

مع أن كاميرات ساهر تملأ الشوارع، إلا أن مخالفات السرعة وعدم التقيد بأنظمة المرور هي في ازدياد مستمر عامًا بعد عام، مما يعني أن الوعي الجمعي ما زال كما هو، إن لم يكن في تراجع. هل هناك من إجراء لم تقم به إدارة المرور لتحفيز الوعي لدى المواطنين، أو أن الخلل يكمن في دواخلنا؟ وقع الحياة يتسارع يوما بعد يوم، وقلقنا من المستقبل هو الآخر يسلك نفس المسار التصاعدي. جميعنا نريد أن نحشد قوانا وقدراتنا لأن نكون في المقدمة، ودون أن يسبقنا أحد، لكن يا ترى على حساب من، وبأي ثمن؟

نحن لا يمكننا بالعربي البسيط أن نقول لأحدهم ”أنت مثالي بالطريقة التي أنت عليها“ وهي عبارة ليس لها مبرر اذا كنا نعلم مسبقًا أن من نتحدث معه على خطأ، فضلاً عن أن تلك العبارة تخالف أبسط القيم التي تربينا عليها، وأولها وليس آخرها، احترام الآخر في روحه وماله. نعم، الهدف الذي تسعى إليه أنت ومن خلال سرعتك الجنونية، ربما يبرره الناس المقربين منك، وثقافتك المتواضعة، إلا أنك لا تمتلك الشارع لنفسك، حتى تمارس فيه ما تعتقد أنها مهارات قيادية تتصف بها أنت دون غيرك من الناس، معتقدًا أنه يمكنك مزاولتها متى وأين ما شئت ولو كان على حساب حياة الناس ومصالحهم.

هؤلاء البشر الذين فقدوا السيطرة على عقولهم وسلوكياتهم، وفي جريهم كالوحوش لتأدية أعمالهم اليومية، لا تحكم تصرفاتهم قوى خارجة عن إرادتهم، بقدر ما تدفعها رغباتهم وأمنياتهم التي آمنوا بها بمحض إرادتهم. جانب من تلك الرغبات، هي تلك اللحظات من النشوة والسعادة المؤقتة التي ينتظرونها لمجرد انتهائهم من مهمة السباق الاستعراضي مع الزمن، وفي عجلة فاقدة للوعي والسلامة الجماعية لكل مرتادي الطريق من مسنين ومرضى وغيرهم ممن يأملون أن يصلوا إلى أعمالهم ووجهاتهم دون التعرض للخطر.

الكل يسرع لأن هناك من يغذيه بالمعلومة الخاطئة، ويخبره أن معظم من وصلوا وحققوا تطلعاتهم، لم يتأتى لهم ذلك لو بقوا على ما هم عليه

من الانصياع لإرشادات هي في نظرهم تهريج وتقييد لكل ما هو إبداعي. لذلك ترى الكثير من الشباب يذعنون لهذه الأفكار الهدامة، وإلا فليعدّوا العدة ويستعدوا لسيل من النقد من محرضين، يشعروهم بالذنب إن أخفقوا في أي جانب من جوانب الحياة.

لكن قل لي بربك، متى كانت آخر مرة شعرت فيها بالراحة جراء ذلك الركض، الذي أوهمك به من حولك، أن السلامة والنجاح تكمن في السرعة؟ متى كانت آخر مرة أحسست فيها أنك طبيعيًا ودون أن يرافقك قلق ما، وأنت خلف مقود السيارة تسابق الزمن وتمارس هوايتك التي كلفتك الكثير من المال، بين مخالفات مرورية وصيانة لمركبتك التي تتعرض لمختلف الصدمات. عندما تصلك النصيحة أو المشورة، دون مقابل، فلا تضربها عرض الحائط، بل اعمل بها. في سياقتك القادمة لمركبتك، خفف من سرعتك والتزم بالتعليمات المرورية ومارس حياة الهدوء، ما دمت محتفظًا بكامل صحتك الجسدية والعقلية، وقبل أن يباغتك القدر. وإن لم تفعل، لا قدر الله، فإن الشعور بالحسرة والندم، عادة ما يكون حليف المعاندين. توقف عن جري الوحوش، تعش حياة أقل ما يمكننا وصفها، أنها حياة متوازنة، يغلب عليها الرضا، بعيدة عن الندم والحسرة على ما فات.