آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

سلسلة صادق الآل (ع) «2»

أي خلق كان عليه صادق الآل ؟!:

قال أبو جعفر الخثعمي: أعطاني الصادق صرّة، فقال لي: ادفعها إلى رجل من بني هاشم، ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً.

قال: فأتيته، قال: جزاه الله خيراً ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش بها إلى قابل، ولكني لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله» «المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 273».

الإمام الصادق يضرب لنا مثلا ونموذجا يحتذى به حينما يقابل إساءة أحد أرحامه له، فلم يتجه الإمام - وحاشاه - كما يصنع بعضنا نحو شحذ سكين الأحقاد والإساءة، بل عمل لله تعالى بصنع المعروف له بعد تفقد أحواله الصعبة، فأمر بصلة وصنع معروف له تخفف عنه وطأة العوز، دون أن يطلب بذلك رضا دنيويا أو سمعة وشهرة.

العلاقة بالله تعالى تترفع بالمؤمن عن وحل القلوب السوداء التي تتغيظ حقدا على الآخرين، فهناك من لا يسعفه التمسك القشري بمنظومة القيم الدينية والإنسانية دون تطبيقها وترجمتها على أرض الواقع وتجسيدها، فترى منه خط مباينة إذ يسير عمله باتجاه الهيئة الصورية للعبادات وواقعه بعيد - كل البعد - عن الإخلاص في العمل لله تعالى وطلب إرادته ورضوانه عز وجل، فالبعض لا يجد غضاضة ولا أي حرج من تخزين مشاعر الكراهية لكل من اختلف معه فضلا عمن أساء إليه وحدثت بينهما مناوشة أو مشاحنة، فالخلافات عصا إبليس التي يتكيء عليها في تدمير روحية الإيمان ومسحته وصبغته على مجمل تصرفات المؤمن، فالخلافات والقطيعة في مجملها ماذا تعني؟

الخلافات المستحكمة والمستمرة لمجرد سوء فهم أو بسبب نقاش طائش يعني افتقاد الهوية الأخلاقية المتجسدة في عمل المؤمن، وذلك أن الباعث والمسير للكراهية هي الأهواء والنفس الأمارة بالسوء المستجيبة لنعيق الشيطان ونفخه وأزيزه، فينتصر المرء في الحقيقة لشيطانه وليس لنفسه حينما يتوهم تحقيق انتصار وغلبة على من يكرهه، إذ تلك الغلبة يراها بمنظار شيطاني خفي من خلال التعرض للغير بالقول السيء من غيبة ونميمة وشتم وتصنيع فتن وقولبة المواقف إلى الظنون السيئة والاتهامات، بل ولا يجد حينئذ غضاضة في الكذب وبث الشائعات وطلب تقطيع أوصال الأواصر الأخوية والأسرية لمجرد تسجيل أرقام في معركته الخائبة، وكفى بالمرء واعظا في هذا المضمار - أعني الدخول في معترك الكراهيات - أن يتخلى الإنسان عن تدينه ويتحول إلى شيطان إنسي لا يهمه سوى التدمير وتوجيه الإهانات، وتفقده الهوية الحقيقية للمؤمن الذي يقبل بها على رب العالمين وهي القلب السليم، أي الإقبال على رب العالمين وعنده شافع من عمله - مع قلته - وهو خلو قلبه من كراهية أحد لأي سبب كان، فالخط الإيماني الرسالي يتجه في صناعة شخصية المؤمن نحو التسامح والطيب والتغافل عمن أساء إليه والقبول الفوري لاعتذاره دون تردد، بينما الرسم الشيطاني هو قناع يحمل معالم هيئة العبادات بينما في دواخله مارد شيطاني يتحرك ويتغذى على الكراهيات، وانتهاز واستثمار أي موقف انفعالي متشنج يمر به ليضيفه كرصيد أسود له يتراكم ويزداد.

وإذا نظرنا إلى جامع مشترك وخيط رفيع يربط مجمل مشاكلنا وأزماتنا المتصاعدة على وقع علاقاتنا الاجتماعية والأسرية والزوجية، سنجد ملتقاه عند الروح الانفعالية التي تتعزز وتتجذر بسبب الحقد وفقدان روح التسامح، والاتجاه نحو المخزون العاطفي الجميل الذي يمثل الوجه الجميل للبشرية بفيض الحنان والتعاطف والتآزر؛ ليحوله إلى تربص وحروب جانبية وكراهيات تعصف بعلاقاتنا، وتنتج ما نراه اليوم من معارك سريعة تنتهي بالزعل والقطيعة بين الزوجين والجيران والأرحام، وإن اختفت روح الكراهية ومقابلة الإساءة بمثلها أو أضعافها، سيسفر المشهد عن مسار آخر قد لا نتوقعه.

بل ويعلمنا الإمام الصادق درسا في كيفية التخلص من نشوء بذرة الكراهية للآخرين وخصوصا من أساء لنا، هو التعامل الأخلاقي المخلص معه بمقابلة إساءته بالإحسان وصنائع المعروف، فالصفح والتسامح ليس بنسيج كمالي غير ضروري في حياة المؤمن الرسالي، بل هو جزء مقوم لشخصيته لا ينفك عنه تماما كالاستجابة للأذان بإقامة الصلاة دونما تأخير، وكذلك خلق العفو والتسامح يشهره في وجه أي إساءة يقصد بها، وبمحاسبته لنفسه يتجنب كل إساءة ويعتذر من مقابلة أحدهم بها.

فالمؤمن لا يعمل على تكوين إمبراطوريته الصورية أو الإعلامية في الدنيا ليتقصى ويتحرى الردود النارية على كل تجاوز واختراق وتعد على شخصيته، إنما عمله وهمه وقصارى جهده يوجهها بمسار العمل الأخروي الذي يتقرب فيه لخالقه، ويعمل على تحصيل ملكة العفو والتسامح التي يرسمها القرآن الكريم وسيرة ونهج الأنبياء والأئمة والصالحين.