آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

نعاسُ الذاكرة

المهندس هلال حسن الوحيد *

يتقدم العمرُ بنا رويداً رويداً في كلِّ شيء، وتشرد الذاكرةُ في حركةٍ معكوسة تحفظ تفاصيلَ كل حكايا الماضي، تغلفها في شرانقِ الأفراح والآلام لا تنسى تفاصيل أيَّ حدثٍ في الماضي كان له دلالةَ حبٍّ أو بغضٍ، أو ربما حدث لا يعني سوى أنه مر بالأمسِ البعيد. ثم يأتي اليوم الذي نحاول فيه تذكر أمسٍ القريب والشخصَ الذي التقينا الساعة! ماذا كان اسمه؟ نعرف أنه من تلك البلاد وأول حرفٍ من اسمه الألف ولكن نسينا باقي التفاصيل. ليس حدثاً عابراً أننا نَقصَّ حكايةً ما مرةً أو اثنتين ثم نتذكر أننا قصصناها من قبل. هل هذا ما تجبرنا عليه بيولوجية الحياة؟

بالطبع لا! كم نعرف أنا وأنتَ من يَبقى في الماضي القديم في عقلهِ وذكرياته وماضيه، الماضي الذي كان عليه أن يكنسَ الذاكرةَ منه ويرميهِ في القمامةِ منذ زمنٍ طويل، مواقف كانت صادمةً حينها ولكنها لابد أن تقتلعَ من الذاكرةِ مثل الحشائشِ الضارة في نفس اللحظة. الذاكرةُ الجميلة هي التي يجب أن تكونَ الشجرةَ الوحيدة الشامخة بتفرعاتها وطولها وثمرها وظلالها لا شيءَ ينافسها. لا بأس أن نتذكر طرافةَ المواقف والدروس التي تعلمناها وكيف نبثها لمن بعدنا، وعند هذا الحد نقف. كل صندوقٍ متناهٍ في الحجم يمكن ملؤه والذاكرة هي صندوقٌ سريع الامتلاء والفيضان، ولابد أن الذاكرةَ العربية رأت وترى وسوف ترى كل يومٍ ما يحفر فيها ويحاول البقاءَ من مشاهدَ وأحداث مؤلمة.

ذاكرتنا هي المتاع والمتعة الفريدة التي تجب أن ترافقنا حتى الممات، نحميها من العبث، نمحو ما نستطيع ونثبت ما نستطيع ولابد أنَّ في الحياةِ منذ الولادة حتى مشارفَ القبر مناظر رائعة وأشخاصاً ملهمين التقينا بهم وضمتنا المجالس وتجارب الحياة وذكرى العائلة التي ”الموت بين أحضانها مثل النعاس“. الآن بإمكاننا أن نوثق كل ذكرانا منذ الولادة وبين أحضان الجدات ونحفظ تاريخنا لكي لا تحصل العمليةُ العكسية التي نفقد فيها ذاكرتنا أو يتم تفريغها من محتواها الرائع وملؤها بمحتوى زائف دون إرادتنا. الذاكرة هي الخيط الذي يشدنا نحو الحياة، ونحو التجارب والعبر التي نحيا بها أفراداً ومجتمعات، نتصالح فيها مع ماضينا، نبنيها في شبابنا وتصاحبنا في كهولتنَا وشيخوختنا، ولكي تخدم ذاكرتنا عقولنا لا بدَّ أولاً أن تخدم قلوبنا وعواطفنا.

أنا لو باعني الصيدلاني اليوم دواءً يمسح ذاكرتي ما اشتريته! ذكرياتٌ أسخر منها، وذكريات أتعلم منها، وذكريات توقظ الضمير الذي يبكي للخطيئة والخطايا، كلها إكسيرُ حياتي الذي يكبر ويغلو مع الزمن!

مستشار أعلى هندسة بترول