آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

الفردانية الليبرالية بين الاخلاق والاقتصاد الرأسمالي

المهندس أمير الصالح *

تجتاح مجتمعات العالم لاسيما في منطقة الشرق الاوسط بين الفينة والاخرى مفاهيم فلسفية عدة مشتقة من مدارس فكرية متعددة ذات حضور فاعل في اوربا وبعض مناطق السرق الاقصى والشمال الامريكي. فنسجل تمدد موجة الاشتراكية الماركسية ثم موجة الراسمالية بصورها المتعددة، ثم تدحرج العلمانية وتبعتها الليبرالية والنيو ليبرالية وحديثا الفردانية الليبرالية. منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والنموذج الرأسمالي الليبرالي هو النموذج الاكثر بروزا في ارجاء المعمورة في يومنا هذا. حتى اتى المفكر الامريكي، فوكوياما، ليقول ما فحواه في كتابه ”نهاية التاريخ“ بانه لن يكون هناك نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي صالح لكل البشر افضل من النظام الرأسمالي الليبرالي الحالي!.

تشخيص المشكل او المعضلات او التيارات بشكل واضح هو عامل بناء نحو ايجاد تفاهمات مشتركة وحلول متنوعة ومساحات عمل اكبر بين جميع المكون الاجتماعي او الوطني او الاقليمي او الدولي. حرصت في هذا المقال تدارس نقد معرفي لمصطلح الليبرالية الفردانية وانعكاسها في السلوك الواقعي الفردي والجمعي الصارخ. قد يصعب على البعض الفصل بين المعرفي والايدولوجي في نقد وتناول الافكار لا سيما عند تصاعد نبرة الاستقطابات والاسقاطات والتحزبات والتجاذبات بين بعض مكونات المجتمع لاسيما في الوطن العربي. حرصت هنا على تجنب الشخصنة والتركيز على التدارس لاسيما ان هناك من يروج ويبشر لليبرالية الفردانية على انها الدين والفكر الخاتم للعقل البشري الناضج ويحاول ان يفرضها الزاما وليس خيارا على الاخرين من خلال مايملكه من ماكينات اعلام عالمية وارصدة مالية ضخمة واشياء اخرى. ومن باب اثراء المثاقفة واستنطاق العقول الباحثة عن الغذاء الفكري السليم، وجنيا لمرابح المجالس الحية الفاعلة كما تقول الحكمة ”العقول النابغة تناقش الافكار والعقول العادية تناقش الاحداث والعقول السخيفة تهايط وتطقطق على البشر“.

ينبهر البعض من الناس بكلمة ليبرالية «liberalism» كمدلول لغوي ويعتقد انها رديف لمعنى الحرية وكسر القيود؛ والواقع التاريخي لمصطلح الليبرالية هو اشبة بتغول رأس المال على حساب القيم الاخلاقية والروابط الاسرية والاعراف الانسانية تحت قناع لفظ مرادفة كلمة الحرية. بل ان الامثلة التاريخية المجسدة على ارض الواقع تنم عن حجم تنمر كبير من قبل سادة الليبرالية في العالم واستلابهم موارد طبيعية مملوكة للغير وتدمير بيئات مخازن طبيعية جشعا من اجل اشباع الانانية والآنية الفردانية والسيطرة لمدعي مذهب او دين الليبرالية بمعظم مذاهبها السائدة حاليا. والسؤال هو ماهي دلالة المشروع الليبرالي الفرداني الفكري والتربوي والرأسمالي في عصرنا الحاضر؟

دعنا نقف سويا على موضوع الليبرالية الفردانية لتمددها بسرعة بين اوساط عمرية معينة في محيطنا الاجتماعي ونحسن الظن في هكذا مجاميع اجتماعية لنموها ونضجها العقلي والفكري في حسن المراجعة والتمحيص. في قلب ايدلوجية الليبرالية نرى تمجيد لـ مفهوم الفردانية بشكل مميز على اعتبار انها مرادف للاستقلال في مفهومها اللغوي. رفع شعار الحرية في منطق الفردانية الليبرالية واطلاق التمجيد لها حتى على حساب القيم الاجتماعية والاسرية والمنظومات الفطرية والاخلاقية والعامة كأن يقول احدهم ”انا بكيفي“ او ”انا ما اذيت احد، هذا جسدي وانا حر فيه“، ”كل واحد ماله خص فيني“، او ”انا حر اسوي اللي يعجبني“.

قبل الوغول في الحديث، قد نحتاج الى مطالعة بسيطة للتعريف الاكثر انتشارا وتداولا عن الليبرالية. الليبرالية لها عدة تعريفات الا ان اهم ما يخدم مقامنا هذا هو منطلق مباني مصطلح الليبرالية التالي: ”الانسان كائن اقتصادي حر“ اي لابد له ان يكون من الناحية الفكرية، حر الاعتقاد والتفكير والتعبير دون حواجز او عوائق، ومن الناحية الاقتصادية هو حر في الانتاج الاقتصادي والملكية الاقتصادية والفعل الافتصادي المتنظم وفق لوائح السوق دون رجوع لاخلاقيات او شرائع سماوية، وهكذا الامر في النواح الاخرى ك الحرية الادبية والحرية السياسية وتفعيل مجالاتها في الفكر والسلوك والتعبير والانتاج دونما حواجز او ضوابط تقيده ك الدين او العرف. مع العلم ان كلمة الحرية هلامية الابعاد والقوام ويعاد تشكيلها بناء على صراع القوى في هذا او ذاك المجتمع الليبرالي بتعدد تعاريفه وتقلب زمانه.

في قراءة سريعة لـ مفهوم الاخلاق من منظور الايدلوجية الليبرالية الفردانية تنص الفكرة على فحوى فكرة ”مزاجي كذا ومافيش حد شريكي“ اي ان للشخص كامل الحرية في ممارسات متفلته من اي سقف طالما الظروف القانونية المدعومة من السلطة التنفيذية تسمح بذلك وان غابت تلكم السلطات في ارض ما ايضا زادت نسبة الافراط والتفريط وغابت كل الاطر والحدود وسقطت المحارم بكل ابعادها. بمعنى اخر سينحو البعض ان عاجلا او اجلا الى تأليه الذات وهو لسان حال الاية الكريمة ”أرأيت من اتخذ اله هواه“ الاية تحت شعار الحرية جسم «بكج» كامل ولا يمكن التبغيض او التجزئة في الاخذ به.

لعلنا نتفق جميعا، انه من الاساس والمهم ان يكون كل فرد داخل اي مجتمع يجب ان يكون عنصر منتج وفاعل اقتصاديا وفي ذات الوقت محافظ على القيم الاخلاقية المتفق عليها عرفا ودينا ونظاما؛ وهذا المفهوم بحق احد مصاديق العصامية المثني عليها عقلا وشرعا ونظاما. اما الفردانية الليبرالية فالعيون الباصرة موضوعيا، تلاحظ ان الليبرالية الفردانية تهشم حواجز الاخلاق والاعراف وتزيد الاثارة الحسية وتداعب خيال واحلام الاحداث والمراهقين والمراهقين المتأخرين من اجل استحصال المال واشباع الرغبات وارهاق النزوات بمسميات مختلفة.

قد تتماطر في ذهن القارئ اسئلة عن مصاديق التطبيقات العملية لهكذا تعريف ونورد المصدر التالي وهو كتاب ”نقد الليبرالية“ للكاتب المغربي ”الطيب ابو عزة“.

في مفهوم الاسرة يقدم المفكر هشام شرابي في كتابه ”النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي“ ما يحلل فكرة السيطرة الذكورية على المجتمعات العربية بمنطق تفكيكي. الا ان البعض من الشباب اتخذ الكتاب مدخل الى حالة التنمر على الصورة التقليدية لنظام الاسرة القائم في كل المجتمعات وليس العربية فقط. واسترسل البعض في قراءاته حتى اتجه لقراءات مشوهة عن الهوية الجنسية والحرية والتنمر، وتبنى بعض الشباب افكار بعض المفكرين الليبراليين او المتاثرين بهم والذين يروجون الى جملة مفاهيم بما فيها ”الجنس الاخر“ بكل انواعه كبديل لنظام الاسرة التقليدي. وهناك من الكتاب من يروج لافكار ليبرالية متطرفة باسم الحرية في التعبير بصياغات متنوعة من علم الكلام المتشابك. لطفا، راجع ”الجنس الاخر“ لجوديث بتلر

‏ Butler، Judith.“Sex and Gender in Simone De Beauvoir’s Second Sex

وكذلك يمكنك الاطلاع المعرفي على بعض افكار ميشيل فوكو وسيمون دي بوفوار في هذا الخصوص واللذين اجادا توظيف كلمة الحرية والحرية الجسمانية بطريقة ملفتة قد يصعب من ليس لديه بوصلة حقيقية واجهز ملاحة دقيقة التمييز بينهما.

وامتطى الليبراليون الفردانيون بعض الاقتباسات من اقوال بعض الفلاسفة بهدف التوظيف لبعض الشعارات المتناسقة مع آراءهم ولتعميق وتفرع المجالات التطبيقية لتحقيق الانفلات المنشود من قبلهم. وقد تمتد الانشطة للفردانية الرأسمالية في ذهن البعض الى المتاجرة بالمواقف والقناعات والقيم والاخلاق والسلوك من اجل استحصال المال او الوجاهة او الالقاب او الرتب او النجومية والشهرة. وهذا لعمرك لون من الوان التطرف اليساري في توظيف كلمة الحرية. فبالامس كنا نتدارس نقدا شطحات بعض مدعي اسم رجال الدين من المتطرفين ونشوء الحركات والتجمعات الاقصائية باسم الدين. واليوم نشاهد بام اعيننا محاولات فرض وعولمة نموذج ليبرالي رأسمالي فرداني محدد على جميع المجتمعات في ارجاء المعمورة.

في مناقشات اعلامية لـ صاحب كتاب ”انقاذ الرأسمالية / Saving Capitalism“، يتعرض السيد روبرت رايش Robert Riech، وزير القوى العاملة بادارة الرئيس الامريكي الاسبق كلينتون، لنقد لاذع في مجال انعدام الاخلاق في النظام الرأسمالي بنسخته الحالية. حتى عبر الكثير منهم بالاحباط وخيبة الامل واليأس من الواقع لا سيما بعد ازمة الرهن العقاري الامريكي عام 2008 والفضائح المتتالية في قطاع البنوك والبورصة والتامين والصحة «انصح بمشاهدة مجموعة من الوثائقيات ذات العلاقة ومنها فيلم وثائقي بعنوان Dirty money وChina Hustle».

ولعل البعض من المراقبين يعتقد ان افتعال احداث فلتان امني في مكان جغرافي ما، هو عن سبق قصد وعمد لخلق سوق على طلبات الاجهزة والمعدات الامنية او شركات الحراسات او الاستشارات الامنية والتكسب من ذلك. واذا اطلق الانسان خصب الفكر العنان لمخيلته لما قد يستطيع ان يُقدم عليه محب المال بشدة مفرطة او صاحب الاعتقاد والممارسة بالفردانية الليبرالية وكاسر حواجز القيم والاخلاق على اعمال وتجارات قد ينصدم الانسان السوي من حجم الانزلاق الاخلاقي الكبير كتجارة البشر وتجارة الرقيق الابيض والاسود وتجارة النفط الابيض وتجارة الحروب.

فللمثال وليس الحصر، الليبرالية الفردانية تسوق للمثلية الجنسية ول الاباحية ولعب القمار ول مبادلة الخدمات في النزوات الجسدية مقابل المال او الغذاء «ظاهرة الاب السكر sugar dad، البنت السكر، الولد السكر» وتشرع لـ تناول البودرة البيضاء السامة «ماريجوانا واخواتها» بين الاحداث ولا نعلم الى اين يتجه القطار مع تقادم الزمان.

اكتفي بما اوردت بعاليه من امثلة واود ان اقول ان تناول مصطلح ومفهوم الليبرالية الفردانية السائدة بالنقد الموضوعي لا يعني اننا ضد مفهوم الحرية الحقيقي من احترام الانسان واننا واياكم كقراء نطالب ونتدارس في كشف الاقنعة عن اي تلبيسات لغوية لليبرالية او سوء استخدام للحرية او وقف مسمى الحرية على اقوام محددين اللون في البشرة والعيون والبلدان؛ والشي نفسه ينطبق على النقد الموضوعي لكافة المصطلحات والمفاهيم الاخرى في المدارس الفكرية الدنيوية والدينية الفاعلة على الساحات الاجتماعية بكل اطيافها.