آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

في الستينات

المهندس هلال حسن الوحيد *

في جمالِ التاريخ أننا نحتفل بأعياد ميلادنا كلَّ سنةٍ من حياتنا ولا نحزن في مماتنا إلا مرةً واحدة، فكيف إذا كنتَ من جيلي إذ بإمكانك أن تحتفلَ بعيد ميلادك مراتٍ في السنةِ الواحدة، واحدةٌ في دينِ عيسى والثانية في دين محمد ﷺ، والباقي للمجهول!

انا جئتُ من جيلٍ أغلبه لم يذكر التاريخُ متى ولد. ربما ولدتُ في البستانِ على يدِ القابلة أو على ظهرِ الحمارِ في رحلةٍ نحو أقرب مكانٍ استطاعت أمي أن تقذفني بكل حنانٍ في يَمٍّ وقالت للحياةِ ”قُصِّيه“. تاريخُ ميلادي معادلةٌ يعرفها أمهاتُ أصدقائي وهي كالتالي: أنا أكبر من صديقي جهةَ الشمال بشهرين، وأصغر من صديقي جهةَ الجنوبِ بسبعةِ أشهر، ثم صديقيَّ من جهتي الشرقِ والغرب. هذا الجهلُ أفادني كثيراً في الغربة حيث كنت متعددَ الهوياتِ التي تعتمد تاريخَ الميلاد.

ولكن ماذا يعني أنني وقفت على بابِ الستينَ سنةً؟ هذا يعني أنني رأيتُ بعيني وسمعت بأذني وشهدتُ على ما قام به البشرُ من صراعاتٍ لا تنتهي وإنجازاتٍ وابتكاراتٍ وصناعاتٍ غيرت حياتي وحياة كل الناس. ورأيت الإنسانَ يصعد نحو القمر ويغوص في سراديبِ التخلفِ والجهلِ والظلم. في بساطةِ المنطق هذا يعني أنني عبرتُ منتصفَ الطريق بكل أمان وأعيش في النصفِ الثاني من لعبةِ الحياةِ والموت فلا بد لي أن اتصفَ وأتحلى بما يليق بالستين، لكل ثانيةٍ معنى وقيمة فمن ينضح من بئرٍ ضحلةٍ عليه أن يشحَّ بمائها على الغرباء.

في الستين عرفت أنني وصلت الستينَ سريعاً بعدما كنت شاباً أرى من في الستين شيخاً طاعناً في السن، وعرفت أن التاريخَ والزمنَ لا يعود وما نراه من تكرارٍ للتاريخِ ليس إلا أخطائنا أو فضائلنا ولكنها في زمنٍ آخر أعطتنا ذاتَ الحصيلةِ من البؤسِ أو البهجة. في الستين عرفت أن رحلةَ الإنسان تشبه رحلةَ الطائر التي تنتهي في هدوءٍ عندما يغلق جناحيه ويحط فوقَ الأغصان بأمان، وهكذا أنت سوف تكون!

كان هذا عنوان مذكراتي التي عريتُ فيها فكري حيناً وعاطفتي حيناً آخر بين ناظريك كل يومٍ، كتبتها قبيل وصولي إلى هنا ”الستين“، في رجاء أن تكونَ سفينتك أقوى من سفينتي والعواصف التي تهزأ بها لتكسرها في بحارِ الحياةِ أحنَّ وأرحم.

مستشار أعلى هندسة بترول