آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

أيادٍ من الغيب

أنا جئتُ من جيلٍ لم يحظَ برفاهيةِ التعليم التمهيدي، فكان إما أن يُزج بنا من الشارعِ إلى المدرسة أو إلى الكتاتيب، وفي كلتا الحالتين طرائفُ وعبر لا تنتهي حتى نتعلمَ أن نمسكَ بالقلم ونضغط بأناملنا الناعمةَ عليه لنرسمَ حرفاً أو نكتبَ رقماً. كان في الصفِّ الأول طلابٌ أكبر مني سنَّا وكان المدرس يختار أحدهم ”عريف“ يضبط سلوكَ البقيةِ في غيابهِ ويعينه في بعضِ الأمور. كانت وسيلة تعلم الكتابة اللوح الأسود ثم الدفتر. أنا كنت أجهش بالبكاء وأرتعد عند الوقوف تحتَ اللوحِ الأسود خوفاً من ألاَّ أعرف كيف أُمسك بالطباشيرِ البيضاء وأفشل في الكتابة. حينها يستدعي المدرسُ عريفَ الصف ليمسك بيدي، أهدأ من البكاءِ وتأتي الثقةُ والبهجة بأنني ”فعلتها“ وكتبتُ أول كلمةٍ لي ولو معوجة!

دفتر المطالعة والخط كان ثمانينَ ورقة نملأها في أسابيع. يطوف المدرس وينظر إلى سوءِ خطِّي ويقول أعد كتابةَ السطر أو القطعة عشر مرات. كنت أرى فيها شيئاً من القسوةِ ولكن كل هذه التجارب علمتني أنه عندما يشتد سوادُ السحابِ تبدو يدٌ من الغيب تقول: هاتِ يدك أيها المخلوق الضعيف. أيادٍ عرفتها وأيادٍ لم أعرفها وأيادٍ أنكرتها، في المدرسةِ والعمل والعلم والتربية، لا عدَّ ولا حصر لها.

تلك الأيادي علمتنا أن التفكير في البدءِ كثيراً يقتلنا كل مرة، ولكن متى ما تحول التفكيرُ إلى طاقةٍ تشبه الطلقةَ تهرب من بين أناملنا الصغيرة أو أيادينا الخشنة لن تتوقف حتى تنهي ما كان عليها أن تنهيه. وعلمتنا أننا لو نظرنا للجودةِ في كلِّ شيء لم ننهِ العشرَ صفحات ولكن كان التكرار يجر معه الجودة، وفعلاً أجادَ كلُّ الطلاب الخطَّ والكتابة. كانت بعضُ الكلماتِ تنحدر أو ترتفع عن خطوطِ الصفحة ولم نكترث لها إلا يومَ الإمتحان!

أنا وأنت متشابهون، فلابد أن أيادٍ من الغيبِ لا تعرفها جاءتك عندما استدعيتهَا قالت لك: ليرتاحَ فكرك ويتسع صدرك، أنا هنا لآخذ بيدك أيها الضعيف، فلا تيأس. أيادٍ تحتاجها الإنسانيةُ كلها الآنَ وهي ضعيفة عاجزةٌ أن تخطَّ على لوحِ الزمن الأسود مستقبلاً باهراً لها إلا بمساعدةٍ ومعونةٍ لا تراها ولكن تحس بها. حتى تعود كل قطرةِ ماءٍ في كل إنسانٍ إلى المحيط، وتعود كلُّ ذراتِ ترابهم للأرض التي جاءوا منها سوف لن تخذلهم تلك الأيادي، فقط لو عرفوا!!!

مستشار أعلى هندسة بترول